الكاتب الصحفي جهاد عبد المنعم يكتب: من مكتبة الإسكندرية إلى اقتصاد المستقبل.. ”إبداع مصر” منصة رقمية بأفق وطني يقوده عمرو طلعت

في قلب مكتبةالإسكندرية، حيث يلتقي الماضي العريق بحلم المستقبل، برزت ملامح مرحلة جديدة من التحول الرقمي في مصر، مع إطلاق النسخة المطوّرة من منصة "إبداع مصر – EgyptInnovate"، خلال فعاليات قمة "تكنى سميت 2025". جاءت هذه الخطوة تتويجًا لرؤية متكاملة يقودها الدكتور عمرو طلعت، وزير الاتصالات وتكنولوجيا المعلومات، لإعادة تشكيل بيئة ريادة الأعمال في مصر، اعتمادًا على أدوات الذكاء الاصطناعي، والتشبيك الذكي بين الشركات الناشئة والمستثمرين.
لم تكن المنصة في نسختها الجديدة مجرد تطوير تقني، بل تجسيدًا لتحوّل فكري كامل في دعم الابتكار المحلي. يعكس تصميمها اهتمامًا ببناء منظومة وطنية رقمية تنقل رواد الأعمال من العشوائية إلى الاحتراف، من خلال خريطة تفاعلية تتيح الوصول إلى بيانات مفتوحة المصدر عن الشركات الناشئة والجهات الداعمة، إضافة إلى روبوت محادثة مدعوم بالذكاء الاصطناعي، يوفر استشارات فنية واقتصادية في مراحل تأسيس ونمو المشروع.
بدا من الواضح خلال الكلمة التي ألقاها الدكتور طلعت في الافتتاح أن التحول الرقمي لم يعد حكرًا على البنية التحتية أو التكنولوجيا بحد ذاتها، بل أصبح مشروعًا اقتصاديًا وطنيًا شاملًا. الأرقام التي طرحها تعكس حجم النقلة النوعية التي تشهدها البلاد: تضاعف حجم الاستثمارات في الشركات التكنولوجية الناشئة سبع مرات خلال الفترة من 2020 إلى 2025 مقارنةً بالأعوام السابقة، وهو ما يشير إلى تحوّل مصر إلى بيئة أكثر جذبًا لرأس المال الجريء.
هذه الطفرة في ريادة الأعمال لم تكن لتحدث دون استراتيجية مدروسة. ضمن هذه الاستراتيجية، جاءت اللامركزية الرقمية كأحد الأعمدة الأساسية، مع التوسع الكبير في عدد مراكز "كريتيفا" لإبداع مصر الرقمية، التي ارتفعت من ثلاث مراكز فقط عام 2018 إلى 24 مركزًا موزعة على 21 محافظة. تتخطى هذه المراكز دورها التدريبي إلى كونها حاضنات حقيقية للابتكار المحلي، إذ شهدت احتضان أكثر من 69 شركة خلال عام ونصف فقط، إلى جانب تقديم الدعم الفني لأكثر من 790 شركة أخرى، بعضها تمكن من إنتاج نماذج أولية تؤهله لدخول السوق.
الوزير لم يُغفل أهمية التمويل كعنصر تمكين أساسي. فقد أبرز في حديثه حزم الدعم المتاحة عبر برامج متعددة مثل Start IT، الذي يمنح الشركات الناشئة دعمًا نقديًا وعينيًا يصل إلى مليون جنيه، وكذلك برنامج Creativa Incubation، الذي يقدم احتضانًا متكاملًا بقيمة تصل إلى 400 ألف جنيه. كما أشار إلى اتفاقيات شراكة استراتيجية مع كيانات دولية مثل "500 Global" و"Plug and Play"، التي تمكّن الشركات المصرية من الوصول إلى الأسواق العالمية، بدءًا من القاهرة مرورًا بالصعيد وحتى الإسكندرية.
ولم يكن غائبًا عن حديث الوزير البعد الإنساني للتحول الرقمي. إذ تم تسليط الضوء على التوسّع غير المسبوق في التدريب وبناء القدرات، حيث قفز عدد المتدربين في قطاع الاتصالات وتكنولوجيا المعلومات من 4 آلاف فقط في عام 2018 إلى أكثر من 480 ألف متدرب خلال العام المالي الأخير، في إطار خطة طموحة لبلوغ نصف مليون متدرب سنويًا. هذا الرقم لا يعكس فقط توسعًا في الكم، بل يعكس تحولًا نوعيًا في الاستثمار في العنصر البشري كحجر أساس في اقتصاد المستقبل.
التعاون الدولي شكل محورًا موازيًا لهذه الرؤية. فقد أشار المشاركون، من بينهم السفير السويدي داج يولين دنفيلت، إلى أن مصر لم تعد مستهلكًا للتكنولوجيا فحسب، بل باتت شريكًا في صناعتها، وبيئة خصبة للشركات السويدية العاملة في مجالات الابتكار. وهو ما يعزز صورة مصر كدولة تمضي بثبات نحو توطين الذكاء الاصطناعي، ليس كأداة للعرض، بل كوسيلة لحل المشكلات وتقديم خدمات فعلية.
اللقاء الذي جمع وزير الاتصالات مع رواد الأعمال داخل المعرض المصاحب للمؤتمر أظهر حرصًا على التواصل المباشر مع الشباب، والاستماع إلى التحديات من أرض الواقع، بعيدًا عن التقارير الرسمية. لم تكن هذه الجلسة حوارًا بروتوكوليًا، بل منصة للاستماع والتفاعل والتوجيه، في محاولة لردم الفجوة بين صناع القرار ومطوري المستقبل.
لقد شهدت الفعالية إعلان محافظ الإسكندرية اللواء أحمد خالد سعيد عن مبادرة "الإسكندرية مدينة ذكية"، وهي خطوة لقيت ترحيبًا من الوزير طلعت الذي شدد على أن نجاح التحول الرقمي يجب أن يقاس بمدى ملمسه في الحياة اليومية للمواطنين، وليس فقط بعدد المنصات أو التطبيقات.
ختام "تكنى سميت 2025" حمل رسائل واضحة: مصر لم تعد تجرب، بل تنفذ؛ لم تعد تنقل الحلول، بل تطورها وتُصدّرها. وبينما تسير خطط التحول الرقمي بقيادة الدكتور عمرو طلعت بخطى ثابتة، يبقى الرهان الأكبر على استمرار هذا الزخم، وتحويل هذه البنى الذكية إلى اقتصاد منتج ومؤثر عالميًا.
من منصة إبداع مصر، ومن شواطئ الإسكندرية، يتشكل ملامح مستقبل رقمي تكتبه مصر بلغتها، وبمفردات شبابها.