مفتي الجمهورية: تاريخ دار الإفتاء يزيد على قرن وربع القرن من العطاء
قال الدكتور نظير محمد عياد، مفتي الجمهورية، رئيس الأمانة العامة لدور وهيئات الإفتاء في العالم: إن تاريخ دار الإفتاء المصرية يزيد على قرن وربع القرن من العطاء النافع المستمر، قدَّم خلاله علماؤها ورجالاتها نموذجًا فريدًا في خدمة الوطن والمجتمع بتفانٍ وإخلاص، وأكد أن الفتوى المنضبطة منهج بدأ مع الأزهر الشريف، قبل أن يصدر الأمر العالي بإنشاء دار الإفتاء كمؤسسة، والتي لم تقبل بدَورها أن تكون مجرد دار لإنتاج الفتوى فحسْب؛ وإنما رسمت لنفسها خطوطًا واضحة ومحددة في إنتاج الفتوى المنضبطة توَّجتها بما يُعرف بـ "مُعتمَد الدار".
- دار الإفتاء المصرية اضطلعت بدَور محوري في صناعة الوعي، عبر تاريخ حافل برصد وتوثيق القضايا الدينية والسياسية والاقتصادية وسائر المستجدات الحياتية
جاء ذلك خلال ندوة بعنوان: "دار الإفتاء المصرية وصناعة الوعي" على هامش احتفالية دار الإفتاء المصرية بمناسبة مرور 130 عامًا على تأسيسها، بحضور الدكتورة هالة رمضان، رئيس المجلس القومي للبحوث الجنائية والاجتماعية، والدكتور عماد هلال، أستاذ التاريخ ورئيس قسم التاريخ والحضارة بجامعة قناة السويس، والدكتور عمرو الورداني، أمين الفتوى بدار الإفتاء المصرية.
وأضاف المفتي أن الاحتفاء بمرور قرن وربع من الزمن على تأسيس دار الإفتاء المصرية لا يستوفي حقه دون النظر إلى جهود مجموعة من رجالات هذه الدار عبر تاريخها العريق، خدموا البلاد والعباد بإخلاص وتفانٍ من خلال فتاوى مستنيرة تحافظ على الأصول والثوابت وتراعي الحال والمآل، مشيرًا إلى أن دَور دار الإفتاء في صناعة الوعي شهد تاريخًا طويلًا لرصد وتوثيق قضايا دينية وسياسية واقتصادية ومستجدات حياتية.
وأشار المفتي إلى أنه عند الحديث عن دار الإفتاء المصرية لا بد أن نقف إجلالًا لجهود هذه الدار التي دأبت على التفاعل مع هموم المجتمع والناس على طول تاريخها، إذ تُناقش آمال الوطن وآلامه، ليس اعتمادًا على العلوم الشرعية فحسْب؛ وإنما بالاطلاع الواعي والشامل على العلوم الأخرى، لبيان حكم الله تعالى وإنزاله على الواقع دون إفراط أو تفريط.
وفي ختام كلمته، أكَّد فضيلة المفتي أن الوعي الحقيقي لا يتحقق إلا بمراعاة المعطيات والمقاصد والمآلات والأعراف والعادات، موضحًا أن أي وعي يظل حبيسَ إطارٍ ضيقٍ ومحدود لا يمكن اعتباره وعيًا مكتملًا، ولا سيما في القضايا التي تتطلَّب تغليبَ المصلحة العامة.
من جهتها، قالت الدكتورة هالة رمضان، رئيس المركز القومي للبحوث الاجتماعية والجنائية: إن عالمنا اليوم يعجُّ بالمخاطر والتحديات، مشيرةً إلى أن مهمة المركز تتمثل في رصد المشكلات الاجتماعية والتعرف على ملامحها وأبعادها وتقديم الحلول والتوصيات بالتعاون مع الخبراء.
وأوضحت الدكتورة هالة رمضان أن الفجوات بين الأجيال المختلفة، وبين الشباب وكبار السن، إلى جانب تفاوت مستويات الوعي، تمثِّل تحديًا متزايدًا في ظل عالم مفتوح وقنوات اتصال متعددة، كما أشارت إلى مواجهة الجمهور موجات فكريَّة متعددة، رغم الجهود الكبيرة التي تبذلها الدولة المصرية، وهو ما يبرز الدور الحيوي لرجال الدين المسلمين والمسيحيين في تقديم الإرشاد والتوجيه في مختلف تفاصيل الحياة اليومية، بما يؤكد حجم الأعباء والمسؤوليات الملقاة على عاتقهم.
دراسة شاملة شملت 10 محافظات في مصر
وأضافت أن المركز نفَّذ دراسة شاملة شملت 10 محافظات في مصر، لجمع آراء الجمهور حول المواقف الاجتماعية والدينية، ومدى الثقة بالمؤسسات الدينية، وذلك عبر فئات عمرية تتراوح بين 18 و70 عامًا، وأظهرت النتائج وجود مشكلات في ترابط الأسرة، ونقص التسامح بين الفئات المختلفة، وانتشار مفهوم "آخذ حقي بنفسي"، كما بينت الدراسة أن المصادر الرئيسية للمعرفة الدينية لدى الجمهور هي إذاعة القرآن الكريم بنسبة 80٪، تليها خطبة الجمعة في المسجد، ووعظ الأحد في الكنيسة.
وأشارت النتائج أيضًا إلى ارتفاع ثقة الجمهور بمؤسسات الأزهر الشريف، ودار الإفتاء المصرية، ثم وزارة الأوقاف، فيما أكد المبحوثون الحاجة إلى سرعة الاستجابة للاستفسارات وسهولة الوصول إلى المعلومات؛ ما يبرز الدور الكبير للفتوى في حياة المواطنين وضرورة تعزيز قدرتها على مواجهة التحديات المعاصرة.
وأكدت الدكتورة هالة رمضان أهمية أن يكون رجل الدين على دراية كاملة بمشكلات الجمهور الاجتماعية والاقتصادية والأسريَّة، بالإضافة إلى قضايا العقيدة والدين، مشيرة إلى أن بعض الفئات المتجهة نحو الفكر اللا ديني غالبًا ما تبحث عن إجابات عن أسئلة دينية غابت عنها في محيطها.
واختتمت رمضان كلمتها بتقديم التهنئة لدار الإفتاء بمناسبة مرور 130 عامًا على تأسيسها، مشيدة بدورها في توجيه المجتمع وتعزيز الوعي الديني والاجتماعي.
كلمة الدكتور عماد هلال استاذ التاريخ
من جهته، قال الدكتور عماد هلال، أستاذ التاريخ ورئيس قسم التاريخ والحضارة بجامعة قناة السويس: إن المفتي هو الذي يفهم روح الشريعة ثم يتكلم ويوقِّع عن الله لإصدار الفتوى. مشيرًا إلى أن منصب الإفتاء أعمق من المفهوم السائد عنه بكثير.
وأضاف الدكتور هلال أن المجتمعات الإسلامية تلتزم في سلوكها بقول الله وحكمه؛ من هنا تظهر أهمية الفتوى. ففي كل صغيرة وكبيرة يسأل الناس عن الحكم الشرعي. وقد تصدَّر للفتوى في مصر صحابة كرام، منهم: عبد الله بن عمرو بن العاص، وتابعون وأئمة مجتهدون كالإمام الشافعي، وكانت فتاواهم تمثل روح هذه الشريعة.
وأشار أستاذ التاريخ إلى ترجمته لنحو 1000 مفتٍ في مصر، مشيرًا إلى أن كثيرًا ممن تصدَّروا للفتوى في مصر لم يكن يعلم أحد عنهم شيئًا، فقد كان لكل محافظة أو مديرية مُفْتٍ أو ما ينوب عنه، مؤكدًا أن العلاقة بين المفتي والمستفتي دائرة ضيقة، لا بد أن يعيها المجتمع.
وأكد الدكتور هلال أن فتاوى دار الإفتاء تُعدُّ كنزًا ومدرسة يتدرب من خلالها العلماء والفقهاء من خلال دراسة مراحل الفتوى، وكيفية تأصيلها، فهي من جهة مصدر تاريخي نعرف منه أنواع المستفتين والقضايا التي شغلتهم، كما نعرف منه الكثير من الجوانب الاجتماعية والاقتصادية. ومن جهة أخرى هي مصدر فقهي ثمين، ومجال تمرين مهم لدارسي الفقه في السياق العملي والتطبيقي، وهي كذلك مصدر ثقافي ولغوي وأدبي.
ولفت أستاذ التاريخ إلى أن أول من انتبه إلى إتاحة سجلات دار الإفتاء هو الشيخ جاد الحق علي جاد الحق، عندما بدأ في أواخر سبعينيات القرن الماضي نشر تلك السجلات. ولما تولى الشيخ علي جمعة منصب الإفتاء انتبه كذلك إلى نشرها، وأدرك أهميتها، وسلَّمها لدار الوثائق المصرية ليستفيد منها الدارسون والباحثون.
دار الإفتاء المصرية تقوم بدَور محوري
من جانبه، أكد الدكتور عمرو الورداني أن مؤسسة دار الإفتاء المصرية تقوم بدَور محوري فيما تحتاج إليه مصر والعالم، مشيرًا إلى أن الوعي يمثل ساحة معركة تُدار عالميًّا، وأن أي تهديد للحضارات يبدأ باستهداف وعيها. وأوضح أن غياب ممارسة الوعي يؤدي إلى اختزاله، ومن ثم اختلاله، وصولًا إلى احتلاله من قِبل قوى خارجية تسعى لإضعاف المجتمع واستغلال الفراغ المعرفي.
وأشار الدكتور الورداني إلى أن الوعي يمثل الجسر بين التنمية والفهم الحضاري، وأنه ليس مجرد ثقافة تُمارس داخل المجتمع، بل أداة حضارية تتطلب أهدافًا ومسارات واضحة. وأوضح أن الدولة أنشأت مؤسسات لبناء الوعي، إلا أن الوعي الحقيقي يتأتى من التفاعل بين الثابت والمتغير، وهو الاحتياطي الذي يرفع الأثر السلبي في المجتمع ويعزز بصيرة الإنسان على نفسه، سواء على المستوى الفردي أو الأسري أو المجتمعي.
وأكد أن القوة الناعمة هي الصانع الحقيقي للوعي، وأن اقتصار المجتمع على المؤسسات وحدها أدى إلى تراجع دَور المدرسة والأسرة في بناء الوعي. وأوضح أن الوعي يشمل مجالات متعددة، منها الوعي بالذات والسياقات والقدرات والتهديدات والآفاق، وأن من العادات المدمرة للوعي عدم إدراك الفرد لدَوره في بناء المجتمع، حيث عمل الأعداء على إضعاف ثقة الفرد بمؤسسات الدولة؛ ما يقلِّل من قدرته على التمكين الوطني.
وتناول الورداني أثر الخلط بين المشاعر الدينية والفكر الديني وما نتج عنه من تهديد الأمن المجتمعي، مشيرًا إلى أن غياب الوعي في السياقات يعوق تأثير الأفراد ويضعف مشاركتهم المجتمعية. وأكد أن دار الإفتاء المصرية تدرك هذه التحديات، وتعمل على بناء الوعي في جميع مجالاته، بما يشمل برامج التدريب الإعلامي والتثقيف الأسري والإرشاد الزواجي، إضافة إلى مركز مواجهة الشبهات والتفكير المتكامل.
واختتم الدكتور الورداني بتقديم مجموعة من التوصيات، منها: تطوير منصات رقْمية متخصصة، وتعزيز الشراكات مع المؤسسات المجتمعية، وتدريب الدعاة على مسائل الوعي، وقياس أثر البرامج التوعوية، وتعزيز الحوار المجتمعي لمواجهة التطرف والإلحاد العاطفي، مع التركيز على أهمية الوعي النفسي والاجتماعي كأساس لبناء مجتمع متماسك.





















