الدكتورة نادية هنري تكتب: المتحف المصري الكبير.. استثمار حضاري يعيد القوة الناعمة لمصر
منذ أن وُلدت فكرة المتحف المصري الكبير عام 2002 على يد الوزير الفنان فاروق حسني ووافق عليها الرئيس الأسبق حسني مبارك، لم يكن الهدف مجرد إنشاء مبنى أثري جديد، بل مشروع وطني ضخم يربط بين عبقرية الماضي المصري وطموحات المستقبل الاقتصادي والسياحي. تم تنفيذ المشروع بتمويل ياباني عبر وكالة التعاون الدولي "جايكا" بقرض تنموي قيمته نحو 800 مليون دولار بفائدة لا تتجاوز 1.4٪ وفترة سداد تمتد لأكثر من 25 عامًا، وهو ما يعكس احترام العالم لإرث مصر وإيمانه بقدرتها على إدارة هذا الإرث بروح العصر.
ورغم تصنيفه كمشروع ثقافي، فإن المتحف المصري الكبير يمثل نموذجًا اقتصاديًا متكاملًا بكل المقاييس، إذ يضم أصولًا فريدة لا مثيل لها في العالم ويستهدف فئة السائح الثقافي الذي يُعد الأعلى إنفاقًا بين أنواع السائحين. وتشير التقديرات إلى أن استقبال المتحف ما بين خمسة إلى سبعة ملايين زائر سنويًا يمكن أن يحقق إيرادات تتراوح بين مائتين ومائتين وثمانين مليون دولار من تذاكر الدخول والخدمات والمطاعم والمتاجر، وبعد خصم تكاليف التشغيل والصيانة سيبقى فائض كافٍ لتغطية أقساط القرض الياباني وتحقيق عائد اقتصادي متجدد.
لكن القيمة الحقيقية للمتحف لا تُقاس بالأرقام فقط، بل بالعائد غير المباشر الذي يعيد تشكيل البيئة الاستثمارية في منطقة الأهرامات من خلال تنشيط السياحة وجذب الاستثمارات الفندقية والتجارية ورفع قيمة الأراضي المحيطة وتعزيز مكانة مصر عالميًا كقوة حضارية وثقافية رائدة.
إن افتتاح المتحف ليس نهاية المشروع بل بدايته الحقيقية، إذ يحتاج إلى إدارة استثمارية حديثة تضمن استدامة العائد الاقتصادي والثقافي. فالنجاح يعتمد على التسويق الذكي الذي يجعل المتحف وجهة عالمية متجددة لا زيارة لمرة واحدة، وعلى خلق تجربة متكاملة للزائر يعيش خلالها رحلة ثقافية وتجارية فريدة من قاعات العرض التفاعلية إلى المقاهي والمطاعم المطلة على الأهرامات، مرورًا بمتاجر الهدايا وتجارب الواقع الافتراضي. كما أن فتح المجال أمام القطاع الخاص لإدارة الخدمات داخل المتحف يضمن جودة التشغيل واستدامة العائد دون تحميل الدولة أعباء إضافية، إلى جانب أهمية التحول الرقمي للتراث بما يتيح فرصًا اقتصادية هائلة من بيع تراخيص الصور والمجسمات ثلاثية الأبعاد وتنظيم الجولات الافتراضية المدفوعة، وهو ما يفتح مصادر دخل جديدة للمتحف.
ويظل تطبيق الحوكمة المالية المستقلة شرطًا أساسيًا لنجاح هذا الكيان، بحيث يُدار كنموذج مؤسسي مستقل له موارده ونظامه المالي الخاص على غرار كبريات المؤسسات الثقافية في العالم لضمان الشفافية والكفاءة.
المتحف المصري الكبير ليس مجرد صرح أثري للعرض بل مشروع وطني لإعادة تعريف العلاقة بين التراث والتنمية، واستثمار في الذاكرة المصرية لبناء مستقبل اقتصادي مستدام، حيث يتحول التاريخ إلى مصدر دخل قومي متجدد والقوة الناعمة إلى أداة تنموية فاعلة. وإذا أُدير المتحف بعقلية منفتحة ومؤسساتية فسيصبح أحد أهم الأصول الاقتصادية والثقافية لمصر في القرن الحادي والعشرين، تمامًا كما هو رمزها الحضاري الخالد أمام العالم.





















 
		 
		 
		 
		 
		 
		 
		 
		 
		 
		 
		 
		 
		 
		 
		 
		 
		