الكاتبة الصحفية إيمي حمدي تكتب ”عقل يلمع وسط الغبار.. حكاية طفل الإسماعيلية الذي هزّ قلوب الملايين”

لم تكن محطة الوقود تلك في قلب مدينة الإسماعيلية سوى مشهد يومي عادي: سيارات تتزاحم، أبواق تتعالى، وطفل صغير يتحرك بين الزجاج الأمامي والخلفي يحمل قطعة قماش بالية في يده. لكن وسط هذا الضجيج، أضاء بريق مختلف. "علي صالح"، ابن الثالثة عشرة، الذي بدا في أعين المارة مجرد طفل يحاول كسب لقمة عيش شريفة، فجّر مفاجأة غير متوقعة.
بينما كان إحدى الرجال يملأ سيارته بالوقود، طلب من علي – على سبيل الدعابة – أن يحل مسألة حسابية معقدة. لم يتخيل للحظة أنه سيجيب عنها، وبابتسامة واثقة، وفي أقل من ثوانٍ، نطق بالإجابة الصحيحة أسرع من هاتفه الذكي. الدهشة عقدت لسانه، فسارع لتوثيق اللحظة بهاتفه المحمول، دون أن يعلم أن هذا الفيديو القصير سيقلب حياته "علي" رأسًا على عقب.
المقطع انتشر كالنار في الهشيم. ملايين المشاهدات وتعليقات غمرتها الدهشة والإعجاب. لقب "عبقري الإسماعيلية" التصق بالطفل الصغير، لكن خلف هذا اللقب البراق تختبئ حكاية أكثر قسوة من أن تُروى في بضع ثوانٍ على شاشة الهاتف.
علي ليس مجرد طفل عبقري في الرياضيات، بل صورة حية لمأساة الطفولة الفقيرة في مصر. فبينما يجلس أقرانه على مقاعد المدارس، يطارد هو أرغفة الخبز من بين السيارات، ينام في بيت متداعٍ تحوّل إلى أطلال بعد حريق لم يُبقِ منه سوى الرماد. لا يملك سريرًا آمنًا ولا حقيبة مدرسية، لكنه يملك عقلًا خارقًا يفيض بالمعادلات والأرقام، كأنه آلة حاسبة تسكن جسد طفل نحيل أنهكه الفقر.
وكم هو مؤلم أن تُحاصر العبقرية بين الجوع والبرد، وأن يُقتل الإبداع في مهده لأن القدر وضعه في بيئة قاسية. ومع ذلك، فإن رحمة الله دائمًا ما تجد طريقها: "ربنا مرن للغلبان". جعل من علي معجزة صغيرة تُذكرنا أن الذكاء لا يعرف طبقة اجتماعية ولا يقيّده بيت أو لقب.
وهنا جاء الدور الفارق لرجل الأعمال عصام العرجاني، الذي لم يتعامل مع الفيديو كترند عابر، بل التقط اللمعة في عيني الطفل. أعلن دعمه ورعايته التعليمية لعلي، ليمنحه فرصة جديدة للحياة التي يستحقها. خطوة إنسانية تفتح الباب أمامنا جميعًا للتساؤل: كم "علي" آخر يضيع بين الشوارع دون أن نراه؟
ومن موقعي ككاتبة وصحفية، أجد نفسي عاجزة عن المرور على هذه القصة مرور الكرام. فهي ليست مجرد خبر، بل جرس إنذار للمجتمع. علي نموذج لطفل واحد، لكن خلفه يقف آلاف الأطفال الموهوبين الذين سحقهم الفقر وأخفاهم التهميش. نخطئ حين نرى هؤلاء الصغار كمتسولين أو عمالة طفولية فقط، فهم قد يكونون علماء الغد ومبدعي المستقبل، إذا ما أُعطيت لهم الفرصة.
الخاتمة إذن ليست لعلي وحده، بل لنا جميعًا: مسؤولية المجتمع والأهالي أن يفتحوا عيونهم وقلوبهم. أطفالنا ليسوا مجرد "أعباء" أو "مسؤوليات"، بل كنوز قد تخبئ عبقرية لا نعلم عنها شيئًا. فلنحتضنهم، ولنمنحهم التعليم والرعاية، لأن مستقبل أي أمة يبدأ من عقل طفل قد تلمع فيه شرارة عبقرية وسط الغبار.
"فلعل بين أيدينا اليوم علي، وغدًا قد يكون بيننا أينشتاين جديد ضاع صوته في ضجيج الشارع"؟