الدكتورة شاهيناز عبد الكريم تكتب : استراتيجية وطنية لاستعادة الوعي وبناء الإنسان المصري

أكثر من اثني عشر عامًا مرت، انتقلت خلالها جمهورية مصر العربية من حالة "شبه الدولة"، حيث كانت مشاهد الزحام والشلل المروري تتكرر يوميًا في نفقٍ ضيق أو على طرق رئيسية مثل كوبري أكتوبر، الذي كثيرًا ما توقف فيه الزمن، إما انتظارًا لمرور شخصيات "فوق الجميع" أو بسبب التكدس المعتاد في أوقات الذروة.
من مصر الجديدة إلى شارع مصطفى النحاس، ومن شبرا إلى القصر العيني، وحتى الطريق الزراعي المزدحم الذي شهد حوادث مؤلمة أنهكت الفلاحين ومواشيهم، رسمت هذه المشاهد المتكررة واقعًا صعبًا. في تل العقارب، والدويقة، حيث سقطت صخور المقطم على الأسر، وفي ماسبيرو حيث غابت كرامة المواطن، ومعاناة مرضى فيروس "سي" الذين أنهكهم الإهمال، وطوابير الخبز أمام الأفران... كانت مصر تئنّ تحت واقع مأزوم، بينما لم تكن تشغل سوى 5% فقط من مساحتها.
ثم بدأت رحلة التحول. تحركت الدولة بإرادة سياسية واضحة نحو البناء، لتنتقل مصر من "شبه دولة" إلى دولة حديثة أنيقة، استعادت فيها القاهرة وجهها الحضاري، واتسع فيها العمران ليحتضن الشعب وضيوف مصر من الأشقاء والمحتاجين.
ظلت أزمة ندرة المياه تؤرق البلاد، واستعصى الحل حتى وصلت شكوى أهالي كفر الشيخ ذات مرة إلى إحدى الأميرات العربيات، التي بادرت بإرسال شحنات من المياه المعدنية إليهم، في مشهد يعكس حجم التحديات التي كانت تواجهها البلاد. تدهورت البيئة، تلوثت الترع، تآكلت الأراضي الزراعية، وانتشرت العشوائيات بلا ضابط، فيما انتشرت قنوات فضائية لا تنقل إلا السلبية، تبث الإحباط وتنزع الأمل.
رغم امتلاك مصر مقومات تكنولوجية واعدة، فإنها لم تكن كافية لاستيعاب قدرات الدولة. كانت التحديات الخارجية جسيمة، والإرهاب في سيناء يتربص بالمفاصل الحيوية، بينما كان الداخل يعاني من إرهاق اقتصادي واعتماد شبه كامل على الاستيراد والاستدانة، وسط تراجع ملحوظ للصناعة المحلية واختفاء الصُناع المهرة.
ومع ذلك، نجحت مصر، بإرادة قيادتها، في تجاوز مفترق الطرق، لتبدأ مسيرة شاقة في البناء والتغيير، رافعةً شعار "لا مستحيل مع العزيمة"، ومتبعةً نهجًا جديدًا في إطلاق المشروعات العملاقة، والاستعداد لاستراتيجية 2060، التي تواجه مستقبلًا إقليميًا مضطربًا وصراعات عالمية محتملة، في ظل واقع اقتصادي عالمي ضاغط.
أعيد بناء العشوائيات، واستبدلت بوحدات سكنية حديثة تحت مظلة "حياة كريمة"، لتحقق الأمل في حياة أفضل لكل المصريين. ومع أن التحديث طال البيئة والصحة والبنية التحتية، إلا أن المكون الأهم – وهو الإنسان المصري – ما يزال بحاجة إلى إعادة بناء داخلي، يواكب الانفتاح الثقافي العالمي، ويواجه تأثيرات وسائل التواصل الاجتماعي وما تبثه من ثقافات متباينة.
ومن هنا جاءت الحاجة إلى "عودة الإنسان المصري"، بدايةً من التنمية البشرية والثقافية والإنسانية، لتشمل كل فرد في المجتمع. وجاء اللقاء الأهم، حين اجتمع السيد رئيس الجمهورية مع ممثلي الهيئة الوطنية للإعلام، لتبدأ الجمهورية الجديدة في صياغة استراتيجية وطنية للإعلام المصري، باعتباره الأداة الأكثر عمقًا وتأثيرًا في تشكيل الوعي واستعادة الهوية الوطنية.
فالإعلام هو أحد أعمدة الدولة الحديثة، ودوره محوري في رفع الوعي العام، وتوحيد المجتمع، بمختلف طبقاته وتوجهاته، في كيان وطني واحد. ويتطلب ذلك خطة إعلامية متكاملة تشمل الإعلام العام والخاص، تستند إلى حضارتنا وتقاليدنا، وتستخدم أدوات ابتكارية، ولغة إعلامية مشوقة تعكس صورة الإنسان المصري الأصيل.
ولا يمكن تحقيق هذا التوجه دون إصلاح شامل في المحتوى الدرامي. فقد ابتعدت بعض الأعمال الدرامية مؤخرًا عن القيم الأصيلة، وروّجت للعنف والتمييز، وقللت من شأن الحق والعدالة والأخلاق. لذا، فإننا بحاجة إلى إعادة ضبط البوصلة الدرامية، بفرض رقابة استرشادية تحفظ حرية الإبداع دون انحراف أو ابتذال، وتُخلّف رصيدًا فنيًا وأخلاقيًا يليق بتاريخ الفنون المصرية.
ومن بين الخطوات القوية التي اتُخذت، عودة المساجد لتكون منارات للعلم والأخلاق، عبر مبادرة "مساجدنا حياة"، بالتعاون بين وزارة الشباب والرياضة، لتقديم توعية أخلاقية وسلوكية للأسرة المصرية، تُعزز من مسيرة التنمية، وتبشر بمستقبل أكثر إشراقًا، بإذن الله.
وللحديث بقية...الاستراتيجية الوطنية للإعلام المصري