الكاتب الصحفى صالح شلبى يكتب :اوعى تسأل لية شغال ميت شغلانة

في لحظة صمت ثقيل، دخل صديقي إلى مكتبي، وجهه شاحب كأن جبال الدنيا تسكن ملامحه، جلس دون أن ينطق، ثم قال بصوت مبحوح كسره القهر، "هوّ فيه عدل في البلد دي؟!"لقد انهيت خدمتى وتم تكريمى بـ"وسام المعاش الضئيل" ،الذي لا يغني ولا يشبع من جوع
سألته: "خير ياصديقى العزيز ؟!"
سألته بحذر: مالك يا صاحبي؟ إيه اللي وجعك للدرجة دي؟ إنت اللي طول عمرك بتضحك حتى في عز الشدائد؟
ردّ وهو لا يطيق نفسه من الغضب والحزن:
"يعني ينفع اللي بيحصل؟! ناس طلعوا معاش وواخدين ملايين، وبمجرد ما يسلموا العهدة، يرجعوا من أبواب تانية يشتغلوا تاني بكذا منصب وكذا مرتب، أقل واحد فيهم بيقبض 300 ألف! وناس تانية مش لاقية تاكل، ولا تلاقي حتى فرصة تدريب!"
فقال لي: "معاشي ١٠ آلاف جنيه، بحطهم على بعض بالعافية يمشوني أنا وأولادي، أكل فول وعدس، وكل أسبوعين كيلو لحمة سوداني، لكن جيراني — اللي ساكنين معايا من أيام ما كان إيجار الشقة بخمسة جنيه، لقيتهم فجأة بعد المعاش اتفتح لهم باب الرزق من حيث لا يحتسبون! واحد اشتغل في شركة حكومية، والتاني في هيئة، والثالث عضو مجلس، والرابع بيلم من عشرين جهة ، والخامس عنده بدل اجتماعات يكفي لتأجير حي شعبي بالكامل!"، تصور أعرف زميل كان على أدة بس يعرف ناس تقيلة فى البلد اصبح اليوم ، رئيس تحرير، ورئيس مجلس إدارة، ورئيس قناة فضائية، وعضو في كذا هيئة إعلامية، وعضو في مجلس النواب! يعني بحسبة بسيطة: مليون جنيه في الشهر رايحين لشخص واحد!
سألنى صديقى طب وباقي الناس؟ الغلابة؟ اللي ماشيين جنب الحيط؟، الشباب اللي بيتخرج من الجامعة يافطته مكتوب عليها، "عاطل بشهادة"!
الناس اللي كل يوم بتسمع عن مبادرات وحوافز وفرص، وهم مش لاقيين حتى شغل تطوعي!، اللي بيتبهدلوا عشان سلفة، أو قرض، أو علشان يجوزوا بنتهم، أو يجيبوا علاج لأمهم!، الناس اللي لما بيمرضو، بيموتوا على أبواب المستشفيات، لأن التأمين الصحي مش فاضي للي ماعندوش واسطة.
الحكومة بتقول لنا "شدوا الحزام"
طب ماشي، بنشد،ونشد، بس نلاقي نفسنا كل مرة إحنا اللي بنتقطع، والحزام بيضيق علينا لحد ما يخنقنا،ليه الحكومة بتشد الحزام حوالينا، وتفك الزرار لكبارها؟!
ليه الحكومة بتكافئ نفس الأسماء القديمة؟ نفس الشِلّة؟ نفس الوجوه اللي حافظين طريق مكاتب الوزراء أكتر من الطريق لبيوتهم؟
ليه في ناس معاشها يشيل محافظة، وناس معاشها ما يجيبش تمن دواء الضغط؟ ،ليه الأغنياء بيتعاملوا كأنهم أولاد الباشا، والغلابة كأنهم عبيد في إقطاعية؟!
إحنا مش بنطلب مستحيل.
صديقى بنبرتة الحزينة ،مش عايزين نركب يخت، ولا نشتري فيلا في الساحل، ولا ندخل عيالنا مدارس دولية،إحنا بس عايزين نعيش بكرامة،عدالة، فرصة، حياة تستحق تتعاش،عايزين نترقى عشان إحنا شطار، مش عشان إحنا نعرف الناس دول!،عايزين معاش يحترم كبرنا، مش يرمي كرامتنا على الرصيف،تصور هناك من الزملاء الصحفيين معاشهم 2000 جنية فقط لاغير وفى منهم من غير معاش ،أنا عايز بلد لما تتكلم عن الأزمة، تشيل الكل فيها، مش تحطها كلها على ظهرنا.
كفاية نفاق اقتصادي!، كفاية توزيع للثروة على الشلة! ،كفاية حكومة بتطبطب على الكبار وبتجلد الغلابة! ،الناس مش عايزة تتسول، الناس عايزة تعيش، مش عايزين "مكرمة"، عايزين "حق"، مش طالبين "مزية"، طالبين "مساواة".
والسؤال الأهم: فين الوقت اللي بيسعفهم؟!
هل اكتشفوا طريقة سرية لإضافة ١٢ ساعة لليوم؟! هل عندهم "كارت VIP" يعفيهم من الحضور والانصراف، ويمنحهم حق التواجد في عشر هيئات بالتوازي؟!
ثم سألني بنبرة يأس ممزوجة بسخرية:
"هو الوطن مابيحبش ولاده غير المحسوبين على الشلة ؟!
فأجبته، وأنا أرتشف قهوتي بمرارة الواقع:
يا صديقي العزيز، نحن نعيش في زمن التناقض الحكومي الجميل، زمن فيه المواطن العادي بيكح دم، والمواطن المدعوم رسميًا بيكح دولارات! زمن لا تسأل فيه عن العدالة الاجتماعية لأن الجواب قد يُصيبك بالاكتئاب الحاد.
أما عن المؤهلات، فحدث ولا حرج.
أيوه، معاهم مؤهلات عليا، بس ولا لها علاقة بأي منصب بيشغلوه حاليًا! يعني مثلًا تلاقي اللي اشتغل حياته كلها في الإدارة المكتبية،بقى دلوقتي خبير في التحول الرقمي،خريج علوم اجتماعية، بيوقع على ميزانيات اقتصادية بحجم الناتج المحلي، قضى عمره بيصدر قرارات إدارية، وبيتكلم دلوقتي عن الثورة الصناعية الرابعة كأنه إيلون ماسك!
لكن السرفىتركيبة الشلة ، مش في المؤهل،السر في التمركز على دوار الحظوة"، حيث تُوزَّع المناصب بالتليفون، لا بالسيرة الذاتية، ويُمنح المقعد لمَن كان قريبًا من دائرة الصوت العالي.
وبينما هؤلاء يتنقّلون بين المواقع كما تتنقّل الكراسي في حفلات الزفاف، نجد المواطن العادي ، اللي اشتغل بضمير، وتخرج من جامعة، وتعلم 3 لغات، واتمرمط ، واقف على الرصيف يتفرج على "لعبة الكراسي الموسيقية، لكنه عمره ما لقى كرسي.
وتسأل الحكومة: "من أين تموّلون هذا البذخ؟"
فتجيب بمنتهى الرضا، كل شيء محسوب في الموازنة، بس إحنا مش بنعلن عنه!،وطبعًا المواطن الغلبان، اللي بيقضي يومه بين طابور التموين ومطاعم الفول والطعمية ، له في الميزانية "بند وهمي" اسمه شد الحزام وسد الفجوة بروحك!"
بلدنا يا سادة ليست فقيرة، لكنها تُدير الفقر كأنّه سياسة وطنية، وتُوزّع الثراء كما لو كان إرثًا عائليًا، والرسالة الدائمة للمطحونين هي،اصبر،ربنا يعوّضك الجنة، بس ما تنساش تشارك في الصندوق أول الشهر!"
يا حكومة:
نحن لا نحسد، ولا نطلب الترف، ولا نريد مقاعد مستديرة، فقط نطالب بعدم تحويل "سن المعاش" إلى "تاريخ الإنتاج الحقيقي"، لا تجعلوا من الدولة عزبةً للكفاءات بالمصادفة،واعملوا حساب الناس اللي اشتغلوا بشرف، وماتوا قبل ما يشوفوا الكعكة، فمن العدل ، لو كان في عدل ، أن يكون للكرامة خاتمة محترمة،مش نهاية ببدل اجتماع!