القس طوني جورج يكتب : ”الميلاد” واستعادة الكرامة الإنسانية في زمن القسوة
نعيش اليوم في عالم يبدو أكثر قسوة من أي وقت مضى. لغة الناس أصبحت أشد، والحكم على الآخرين أسرع، والرحمة أقل. أصبحنا نُقيِّم الإنسان من مظهره، أو دخله، أو موقعه الاجتماعي. وفي لحظة نختصره في خطأ أو سقطة صغيرة. كثيرًا ما نحكم على الناس عندما يخطئون، كأن الخطأ ألغى إنسانيتهم أو أسقط قيمتهم. وفي هذا المناخ القاسي، يبدو الحديث عن الكرامة الإنسانية كأنه رفاهية، بينما هو في الحقيقة جوهر الإيمان وجوهر الإنسانية معًا.
قصة "ميلاد المسيح" في جوهرها ليست مجرد حدث تاريخي أو طقس ديني، بل إعلان إلهي عميق عن كرامة الإنسان. طفل يولد في مزود فقير، في أسرة بسيطة، ولا يجد مكانًا في الفندق. لا نفوذ، لا مال، ولا حماية اجتماعية.
إن الله لم يرسل فكرة، ولا قانونًا، بل اقترب بنفسه من الإنسان، وسكن واقعه، بكل ما فيه من ضعف وهشاشة. ورغم بساطة المشهد، فإن هذا الطفل غيّر تاريخ البشرية، وأعاد تعريف معنى القوة، والقيمة، والقيادة. "الميلاد" يُعلن أن قيمة الإنسان لا تُقاس بمكانته، ولا بنجاحه، ولا حتى بأخطائه، بل بكونه إنسانًا محبوبًا من الله.
في عالمنا اليوم، نرى قصصًا تتكرر كل يوم؛ شخص يُدان اجتماعيًا بسبب سقطة واحدة، وآخر يُحاكم بسبب ماضيه، وإنسان يُستبعد أو يُقصى لأن صوته ضعيف أو حضوره غير مؤثر.. قصص نعرفها جميعًا، ونصادفها في الشارع، وفي أماكن العمل، وعلى مواقع التواصل الاجتماعي، حيث يتحول الخطأ أحيانًا إلى حكم نهائي، وتُسحب الكرامة قبل أن تُمنح فرصة للفهم أو الإصلاح.
وهنا يأتي إعلان يسوع قويًا وواضحًا: المسيح لم يأتِ ليُدين الإنسان، بل ليمنحه الغفران، ويعيد له قيمته ومكانته. محبة المسيح لم تكن انتقائية، ولم تُمنح للأبرار فقط، بل امتدت لكل العالم، بما في ذلك الخاطئ والمنكسر والمرفوض اجتماعيًا. هو الذي قال بوضوح: «لَمْ آتِ لِأَدْعُوَ أَبْرَارًا بَلْ خُطَاةً إِلَى ٱلتَّوْبَةِ» (مرقس 2: 17).
الميلاد إذن هو إعلان الكرامة لكل إنسان. الخطية لا تلغي الإنسان، والسقوط لا ينهي القصة. "الميلاد" دعوة لأن نعيد النظر في طريقة حكمنا على بعضنا البعض، وأن نتعلم أن نفرّق بين الإنسان وخطئه.
وفي هذا السياق الروحي والإنساني، يبرز الحديث عن الاستراتيجية الوطنية لحقوق الإنسان (2021–2026) باعتباره امتدادًا عمليًا لهذه القيم، وتذكيرًا بأن كرامة الإنسان مسؤولية مشتركة بين الدولة والمجتمع. فحماية الحقوق لا تبدأ بالقوانين وحدها، بل بثقافة عامة تحترم الإنسان في كل أحواله، وتمنحه الفرصة العادلة للحياة الكريمة.
إن عيد الميلاد ليس مجرد مناسبة دينية، بل دعوة متجددة لإحياء الضمير الإنساني، وترسيخ قيم العدالة والرحمة، والعمل من أجل مجتمع يؤمن بأن الكرامة الإنسانية حق أصيل لا يُنتقص.
فالقوانين مهمة، لكن الرحمة ضرورية. والعدالة أساسية، لكن بدون إنسانية تتحول إلى قسوة. ففي زمن تكثر فيه الأحكام وتقل فيه الرحمة، يأتي الميلاد كل عام ليعيد توجيه البوصلة؛ فالإنسان لا يُختصر في خطأ، ولا يُلغى بسقوط، ولا تُسحب كرامته تحت أي ظرف. "الميلاد" هو إعلان محبة الله لكل العالم، ودعوة لنا أن نرى الإنسان بعيون الرحمة، وأن نستعيد إنسانيتنا.. قبل أن نحاكم غيرنا.
























