«اللي باقي منك».. حكاية ثلاثة أجيال تبحث عن وطن ضاع وصوت سينمائي يعيد رسم ملامح الهوية الفلسطينية
قدمت المخرجة ذات الأصول الفلسطينية شيرين دعيبس في فيلمها "اللي باقي منك"، المشارك في المسابقة الرسمية لمهرجان البحر الأحمر السينمائي في دورته الخامسة، واحدة من أكثر التجارب العربية نضجا من حيث السرد البصري وإدارة الممثلين، مع قدرة واضحة على المزج بين المأساة العائلية والتاريخ الكبير دون فذلكة أو افتعال.
سرد ممتد عبر ثلاثة أجيال
ينطلق الفيلم من جملة افتتاحية لعجوز تقول: "لكي تفهموا من هو ابني، يجب أن أخبركم بما حدث لجده."
ومن هنا يفتح العمل أبوابه على رحلة تمتد من نكبة 1948 وحتى عام 2022، بتقاطع زمني غير تقليدي تقوده الراوية حنان، التي تلعب دورها شيرين دعيبس نفسها.

يعود الفيلم إلى يافا وحيفا بمشاهد مشغولة بعناية، ويستعرض عبر ذاكرة العائلة الفلسطينية كيف تبدلت الحياة، وكيف تكررت الصدمة ذاتها عبر ثلاثة أجيال متعاقبة، وصولا إلى لحظة إصابة نور الحفيد خلال تظاهرات الانتفاضة الأولى عام 1988، وهي اللحظة التي تبني عليها دعيبس مركز الثقل الإنساني للفيلم.
إخراج محكم وإدارة ممثلين لافتة
من أول مشهد، يبان تحكم دعيبس في الكاميرا، واعتمادها على اللقطات القريبة اللي تسمح للممثلين يقدموا مشاعرهم من غير جملة زيادة.
أداء الأطفال في كل المراحل كان مفاجأة جميلة، لكن التميز الحقيقي كان عند الممثل القدير محمد بكري في دور الجد، حضور طاغي، وعمق كبير من غير أي مبالغة.
أما شيرين دعيبس، فبتقدم أداء صادق جدا بملامح عربية واضحة تساعد المشاهد يصدق الرحلة من غير ما يشعر ببعد تمثيلي أو تكلف.
صالح بكري.. مدرسة تمثيل هادئة
صالح بكري قدم واحد من أنضج أدواره على الإطلاق.
بيمثل بوجهه، بعينيه، بإيده المرتخية، وبهدوء صادم قادر يجعل مشهد واحد يختصر تاريخ شعب.
أداؤه يلمسك من غير ما يصرخ أو يدخل في انفعالات جاهزة، وهذا يجعله من أبرز المرشحين للفوز بجائزة أفضل ممثل في هذه الدورة، لتكون المرة الثانية بعد فوزه في النسخة الثالثة من المهرجان.
موسيقى أمين بوحافة.. نصف الروح
الموسيقى التصويرية لأمين بوحافة مش مجرد خلفية، هي نبض الفيلم.
في اللحظات المؤثرة تضاعف الإحساس، وفي لحظات الصمت تفتح مساحة للتفكير والتأمل.
بوحافة رفع الفيلم درجة كاملة للأعلى، وخلق هوية صوتية خاصة جدا.
أسئلة تترك بلا إجابات
على الرغم من اتساق السرد وقوة البناء، يخرج المشاهد وفي ذهنه تساؤلا كبيرا:
لماذا اختارت شيرين دعيبس إدخال خط درامي يتعلق بالتبرع بأعضاء طفل فلسطيني لإنقاذ طفل إسرائيلي؟
هنا ينقسم المتفرجون:هل هو انتصار للإنسانية وتأكيد على قدرة الفلسطيني على تجاوز الألم؟، رسالة موجهة للغرب لإعادة تقديم الفلسطيني بصورة "متسامحة" ضمن سياق عالمي حساس؟.
المشهد الذي يجمع الأم الفلسطينية بالشاب الإسرائيلي الذي حصل على قلب ابنها، وعبارة "نحن نشعر بألمكم وندفع ثمنه حتى الآن"، أثار نقاشا واسعا داخل القاعة، وما زال يثيره.
فلسطين الغائبة الحاضرة
كان الفيلم فرصة قوية لاستعادة شكل الحياة في يافا وحيفا قبل الاحتلال:البيوت، الموانئ، البساتين، الشعر العربي على موائد العائلات، كلها تفاصيل تقدم بحنين واقعي بعيد عن المثالية الزائفة، ليعيد الفيلم تثبيت سؤال الهوية الفلسطينية أمام جمهور دولي واسع.
"اللي باقي منك" فيلم كبير ومحكم، يوصل رسالته دون أن ينجر وراء خطابية أو بطولات مصطنعة.
عمل إنساني، سياسي، تاريخي، وعائلي في الوقت نفسه،وإضافة مهمة للحضور السينمائي الفلسطيني في المهرجانات العالمية، خاصة مع انضمام أسماء بحجم خافيير بارديم ومارك روفالو كمنتجين منفذين، ومع اختيار الأردن له لتمثيلها رسميا في سباق الأوسكار 2026.
























