من الفاو إلى أبرين… تتشكل جغرافيا اقتصادية جديدة تعيد للعراق دوره التاريخي وتفتح لإيران وروسيا نوافذ تجارية جديدة
يشهد العالم اليوم سباقًا محمومًا على رسم طرق التجارة الجديدة التي ستحدد موازين القوى في القرن الحادي والعشرين. وفي حين تتراجع المسارات التقليدية عبر قناة السويس والمحيط الهندي، تظهر مشاريع بديلة تمتد من الخليج العربي إلى البحر الأسود، ومن موسكو إلى الخليج العربي عبر طهران، لتضع الشرق الأوسط مجددًا في قلب الحركة الاقتصادية العالمية.
ويبرز في هذا السباق مشروع الممرات التجارية المستدامة في العراق إلى جانب ممر الشمال-الجنوب الروسي-الإيراني، في حين تسعى تركيا إلى ترسيخ نفوذها عبر ممرات أخرى بديلة تربطها بأوروبا والخليج، لتتحول المنطقة إلى لوحة متشابكة من المصالح المتقاطعة.
العراق – من ممرٍ للحروب إلى جسرٍ للتجارة
ينطلق من جنوب العراق مشروع الممرات التجارية المستدامة الذي يهدف إلى ربط ميناء الفاو الكبير بشبكة من ممرات السكك الحديدية والبرية الحديثة، ممرات تمتد شمالًا وغربًا لتصل إلى تركيا وسوريا والأردن، وهي بذلك تفتح أمام العراق آفاق لتواصل مع البحر الأسود والبحر المتوسط والبحر الأحمر.
هذا المشروع لا يُعد مجرد طريق نقل، بل رؤية اقتصادية شاملة لإعادة دور العراق كمركزٍ لوجستي إقليمي بين آسيا وأوروبا. فالعراق كان في عصور الازدهار أيام بلاد ما بين النهرين طريق القوافل القديمة بما في ذلك طريق الحرير العظيم، وهو يسعى اليوم لاستعادة مكانته التاريخية عبر ممرات عصرية صديقة للبيئة تعتمد على الطاقة النظيفة والرقمنة في إدارة النقل والبضائع.
وتؤكد وزارة النقل العراقية أن المشروع يتضمن سككا حديدية سريعة، وطرقًا مزدوجة تمتد من الفاو إلى الحدود التركية، مع فروعٍ أخرى تمتد نحو سوريا والأردن، ما يجعل العراق مركز عبور للبضائع القادمة من الصين والهند والخليج باتجاه أوروبا وشمال إفريقيا، في منافسة مباشرة مع قناة السويس والممرات التركية.
روسيا وإيران: ممر الشمال–الجنوب يدخل الخدمة
في غضون ذلك وفي إطار خطوة موازية، أعلنت موسكو وطهران عن وصول أول قطار شحن روسي إلى ميناء أبرين الإيراني ضمن ممر الشمال-الجنوب الدولي، تقع نقطة انطلاق القطار على بُعد 900 كيلومتر شمال موسكو، وتستغرق الرحلة 12 يوما عبر روسيا وكازاخستان وتركمانستان وصولا إلى إيران.
يحمل هذا الممر أهمية استراتيجية كبرى لروسيا، إذ يوفّر طريقًا أقصر وأرخص للوصول إلى المياه الدافئة في الخليج العربي، ويمنح إيران دورًا محوريًا في ربط أوروبا بآسيا الوسطى والهند.
يمثل هذا التطور وفق البعثة التجارية الروسية في طهران، “مرحلة مهمة في تطوير الخدمات اللوجستية الأوراسية، وتأكيدًا على التوجه نحو استقلال اقتصادي عن الممرات الخاضعة للغرب.”
ويُعد ميناء أبرين الإيراني، الذي أُطلق رسميا في مايو 2025، أكبر مشروع لوجستي حديث في إيران، يربط ممرات الشرق-الغرب والشمال-الجنوب، ويُتوقع أن يصل إلى طاقته الكاملة خلال الأعوام القليلة المقبلة، ما يعزز موقع طهران كمحور نقل رئيسي في المنطقة.
تركيا: بين الحذر والمنافسة
لكن دخول العراق وروسيا وإيران في هذه الشبكة من الممرات كان لا بد أن يثير بعض القلق لدى أنقرة. فتركيا التي تسيطر على منافذ البحر الأسود والأناضول نحو أوروبا، ترى أن هذه المشاريع قد تُقلّص من أهمية ممرها التجاري التقليدي الذي يربط الشرق بالغرب عبر أراضيها.
مصادر إقليمية تشير إلى أن أنقرة تعمل على تعزيز مشروع “ممر التنمية التركي” الذي يربط شمال العراق بموانئ تركيا الجنوبية، في محاولة لموازنة النفوذ الإيراني والروسي.
ويرى مراقبون أن تركيا قد تسعى إلى إبطاء أو التأثير على مسار الممر الإيراني-الأوروبي من خلال سياسات لوجستية ودبلوماسية، وطرح بدائل أسرع وأكثر أمنًا عبر أراضيها، خصوصًا مع الدعم الأوروبي المستمر لمشاريع العبور التركية.
في هذا السياق، يشير الباحث في الشؤون الإقليمية د. حسن الهاشمي إلى أن “أنقرة تدرك أن السيطرة على خطوط النقل ليست مسألة اقتصادية فقط، بل هي أداة نفوذ سياسي. وكل ممر جديد في المنطقة هو تحدٍّ مباشر لموقعها الجغرافي الاستراتيجي”.
سباق الممرات والهيمنة الاقتصادية
يتحوّل الشرق الأوسط اليوم إلى ميدان مفتوح لتقاطع المصالح الكبرى، حيث تلتقي المشاريع الروسية-الإيرانية مع الطموحات العراقية، مع التوجس الحذر من تركيا الذي قد يدفع لاتخاذ بعض الإجراءات للحفاظ على دورها التقليدي كجسرٍ بين القارات.
ويرى المحلل الاقتصادي د. رائد العبيدي أن “الممر العراقي يمكن أن يكون همزة الوصل بين طريق الشمال-الجنوب الروسي والممر الهندي-الأوروبي، ما يمنح بغداد قوة تفاوضية كبيرة ويعيدها إلى قلب الاقتصاد الإقليمي”.
ويضيف أن “التحول في مسارات التجارة العالمية بعد جائحة كورونا والحرب الأوكرانية جعل من المنطقة محورًا جديدًا للمنافسة على النفوذ، لأن من يمتلك الطريق يمتلك القرار الاقتصادي”.
خريطة الممرات الجديدة في الشرق الأوسط
الممر العراقي (البحار الثلاثة): يبدأ من ميناء الفاو الكبير على الخليج العربي، ويتجه شمالًا عبر البصرة وذي قار وبغداد والموصل، مع تفرعات نحو سوريا والأردن وصولًا إلى البحرين الأحمر والمتوسط، وشمالًا نحو تركيا وأوروبا الشرقية.
الممر الروسي-الإيراني (الشمال-الجنوب): ينطلق من شمال موسكو عبر كازاخستان وتركمانستان وصولًا إلى ميناء أبرين الإيراني، حيث يتفرع جنوبًا نحو الخليج العربي، ليشكل أقصر طريق لربط روسيا بآسيا والهند والخليج.
الممر التركي (الأناضولي-الأوروبي): يمتد من موانئ تركيا الجنوبية عبر شبكة السكك الحديدية العابرة للأناضول وصولًا إلى البلقان وأوروبا الغربية، مع اتصالٍ محتمل بـشمال العراق عبر مشروع “ممر التنمية”.
هذه الممرات الثلاثة ترسم اليوم خريطة نفوذ جديدة في الشرق الأوسط، حيث تتقاطع الطموحات وتتنافس القوى على السيطرة على “طرق المستقبل” – بين من يسعى للترابط والتواصل، ومن يخشى أن يُستبعد من الطرق الجديدة.





















