المستشار محمد سليم يكتب : رجال وعظماء البرلمان.. من هنا وُلد وجدان الوطن
عبر تاريخ الحياة النيابية في مصر، وُجد رجال لم يمرّوا مرور الكرام على قاعة البرلمان، بل تركوا بصمات خالدة في الذاكرة الوطنية، وسطروا صفحات من العطاء والوفاء للوطن والمواطن، لم يكونوا مجرد نواب تحت القبة، بل كانوا رجال دولة حقيقيين، حملوا على أكتافهم هموم الشعب، ودافعوا عن كرامة مصر بكل ما أوتوا من فكرٍ وإخلاصٍ وشرف.
في مقدمة هؤلاء العظماء، يأتي الدكتور أحمد فتحي سرور، الأستاذ والمفكر القانوني، الذي أدار مجلس الشعب بحكمة العالم وهدوء القاضي وعدالة الدستور، كان مدرسة في إدارة الحوار، وموسوعة في التشريع، وصوتًا وطنيًا لا يعرف المزايدة ولا الانفعال.
ثم يأتي الدكتور علي عبد العال، ذلك الأكاديمي البارع الذي صاغ لغة جديدة في إدارة جلسات مجلس النواب ، عنوانها الانضباط والهيبة والاحترام،استطاع أن يمزج بين صرامة القانون ومرونة السياسة، فحافظ على صورة البرلمان في الداخل والخارج، وأعاد الانتباه إلى قيمة الكلمة تحت القبة.
ولا يمكن الحديث عن البرلمان دون ذكرالوزيركمال الشاذلي، "شيخ البرلمانيين" وعرّاب السياسة الشعبية في مصر، كان سياسيًا بالفطرة، يعرف دهاليز الشارع كما يعرف أسرار القاعة، يجمع بين الحضور الطاغي والدهاء السياسي، ويملك قدرة نادرة على قراءة الوجوه والملفات في آنٍ واحد.
ويظل أحمد أبو زيد نموذجًا للنائب الهادئ الرصين، الذي لا يتحدث إلا ليضيف، ولا يعارض إلا ليبني. أما عبد الرحمن راضي فكان أحد الأصوات البرلمانية التي حملت هموم الناس البسطاء، ونقلت صوت الريف والصعيد إلى العاصمة بصدقٍ وإخلاص.
ويأتي اسم سيد رستم ليذكرنا بذلك النائب الشعبي الذي لا يفصل بين المواطن وممثله، وكان مثالاً في الالتصاق بالناس، بينما كان مصطفى السلاب رمزًا للقطاع الاقتصادي داخل البرلمان، يجيد لغة الأرقام كما يجيد لغة الوطن.
ولا ينسى البرلمان اسم اللواء سعد الجمال، أحد فرسان العمل الوطني، الذي جمع بين انضباط المؤسسة الأمنية وفكر المؤسسة التشريعية، وكان صوته عقل الدولة في القضايا القومية.
أما محمود أباظة، فهو أحد رموز الليبرالية المصرية، ووريث مدرسة حزب الوفد العريقة، صاحب فكر راقٍ وكلمة مسؤولة، ظلّ وفيًّا لمبادئه مهما تبدلت الظروف.
ويتبعه الدكتور عبد الأحد جمال الدين، أستاذ التربية والقانون والبرلمان، الذي قدّم نموذجًا للنائب المثقف الواعي، الذي يجيد الموازنة بين النظرية والتطبيق.
ولا يمكن أن نغفل اسم رجب هلال حميدة، الذي مثّل حالة برلمانية خاصة؛ جريئة، صريحة، تملك شجاعة الكلمة ومهابة الموقف، وتيسير مطر، أحد أبناء الجيل البرلماني العصامي، الذي جاء من بين الناس وإليهم، يرفع شعار "الخدمة قبل الكلمة".
ويأتي حسين مجاور، الزعيم العمالي، صوت العمال والمدافعين عن حقوق الكادحين، الذي حمل هموم الطبقة العاملة إلى أعلى منصة تشريعية في البلاد،أما عبد العزيز مصطفى، فقد عُرف بوطنيته الخالصة وقدرته على الجمع بين الاقتصاد والسياسة بروح الدولة المصرية الأصيلة.
ولا يمكن أن تُذكر مواقف البرلمان الجريئة دون الوقوف احترامًا عند اسم حمدي الطحان، رئيس لجنة النقل والمواصلات الأسبق، وصاحب التقرير الأشهر في تاريخ البرلمان المصري - تقرير تقصي الحقائق عن كارثة العبارة السلام 98.
كان ذلك التقرير نموذجًا في الشفافية والمواجهة والمساءلة، وفتح صفحة جديدة في تاريخ الرقابة البرلمانية الجادة، حيث وضع الحقيقة أمام الجميع بلا خوف ولا مجاملة.
كما لا يمكن أن نغفل اسمين كبيرين في الذاكرة البرلمانية، كمال أحمد، النائب الوطني الصلب، صاحب المواقف الجريئة الذي لم يساوم يومًا على مبادئه، وكان ضمير الإسكندرية في كل القضايا الوطنية،وعبد المنعم العليمي، النائب القانونيابن محافظة الغربية ، الذي صاغ كلمات الحق بميزان الدستور، وكان حاضرًا دائمًا في القضايا التي تخص العدالة الاجتماعية وسيادة القانون.
كل هؤلاء العظماء… عاشرتهم لسنواتٍ امتدت لأكثر من عشرين عامًا تحت القبة وداخل لجان مجلس النواب. كنت قريبًا منهم، رأيت فيهم حب الوطن في أبهى صوره. كنا نختلف في الرأي لكننا نتفق دائمًا على أن مصر فوق الجميع.
أكثرنا كان يرفض مكافأة المجلس ويتبرع بها. لم تكن المناصب غايتهم، ولا المزايا هدفهم، كانت قضيتنا - آنذاك - الضعفاء والمهمشين والأرامل والمحتاجين، كانت الرقابة والتشريع من أجل الوطن والمواطن، لا من أجل اللقطة ولا العناوين، كانت تلك الأيام زمنًا نقيًا من ذهب، زمنًا كان النائب فيه يبيت في دوائره لا في برجه العاجي، وكان المواطن يشعر أن له سندًا حقيقيًا تحت القبة.
فيا ليت الزمان يعود يومًا، ليعود معه أولئك الرجال الذين علّمونا أن الكلمة أمانة، والمقعد مسؤولية، والبرلمان ضمير الأمة، نحن ننتظر من المجلس القادم أن يتخذ من هؤلاء السابقين قدوةً ومثالًا،أن يدرك أن أمانة الكلمة لا تقل وزنًا عن مسؤولية الوطن، وأن يعود إلى مضابط الجلسات القديمة ليقرأ، ليتعلّم،كيف كان البرلماني المصري لا يتحدث إلا ليصنع أثرًا،ولا يصمت إلا احترامًا لمصر.
كاتب المقال المستشار محمد سليم عضو المحكمة العربية وعضو اللجنة الدستورية والتشريعية بمجلس النواب السابق





















