الكاتب الصحفى عماد فؤاد يكتب .. الدكتور سرور رجل عظيم .. ظلمته السياسة و أنصفه العلم
فقدت مصر رجلًا من أهم رجالاتها، بعد أن أدى دوره في خدمتها على مدى 70 عامًا بأفضل ما يكون الأداء.. رحل الأستاذ الدكتور أحمد فتحي سرور، بعد حياة حافلة امتدت طولًا وعرضًا وعمقًا في قلب الحياة السياسية والعلمية والاجتماعية، وهوكما وصفه نجله الدكتور طارق وهويعلن الخبر الحزين، بأنه دبلوماسي وتنفيذي وبرلماني ومهني مشرف داخليًا ودوليًا.
ومن حسن حظي أنني عرفت الدكتور سرور على مدى أكثر من 20 عامًا، تعلمت منه الكثير ما أفادني في حياتي السياسية والمهنية، وبداية العلاقة لم تكن تنبئ إلا بالبعد والنفور، وكثيرُا ما انتقدته في كتاباتي كمحرر برلماني عن جريدة "الأهالي" المعارضة، وبعدها جريدة "المصري اليوم"، وكان يفاجئني برد فعله العاقل والمتزن على ما اكتب، وهوما وضحه لي فيما بعد، فهوكرجل يعمل في الشأن العام ألزم نفسه بقبول النقد حتى وإن كان قاسيُا، طالما لم يصل إلى عتبات التجريح الشخصي.
وعلى مدى الساعات القليلة عقب إعلان خبر وفاته، تسابقت المواقع الإخبارية المحلية والإقليمية والعالمية، في سرد تاريخه السياسي والعلمي، والإشارة إلى المناصب التي تولاها داخل مصر وخارجها، ولم يكن أمامي إلا الكتابة عما كان بيني وبينه من حوارات ثنائية، في مجملها لم تكن شخصية، بقدر ما تكشف عن عقلية ذلك الرجل الذي نادرًا ما يصادف المرء مثله في الحياة، وقدرته على قراءة الأحداث بعمق يتفق مع خبراته التي تراكمت عبر عشرات السنين.
ولعل أقسى ما مر به في حياته، اتهامه فيما سمي بـ "موقعة الجمل"، والادعاء بقتل المتظاهرين ضد نظام الرئيس الراحل حسني مبارك، وبحكم أنني كنت شاهدًا في القضية، قابلته أكثر من مرة في مبني وزارة العدل، خلال جلسات التحقيق في القضية، وكان "سرور" واثقًا من البراءة في النهاية، ليس لنفسه فقط، وإنما لكل المتهمين، فهي قضية ملفقة بلا أساس، ومن أروع ما قاله دفاعًا عن نفسه أمام المحكمة: "ماذا أقول لتلاميذي من أساتذة القانون في العالم عندما يرونني متهمُا في قضية مثل هذه، قضية مدعاة، وبلا دليل واحد".
وتحقق ما توقعه، وحصل جميع المتهمين على البراءة، وللتاريخ فقط .. فإن النيابة العامة ( في عهد حكم جماعة الإخوان الإرهابية ) امتنعت عن الطعن على الحكم، على غير المعتاد .وقد لا يعلم الكثيرون أن الدكتور سرور خرج من فترة سجنه بأحد أهم مؤلفاته العلمية.. " الوسيط في قانون الاجراءات الجنائية "، ليؤكد سمت العالم والفقيه عندما يصر على الإنجاز في أصعب الظروف.
وضرب الدكتور فتحي سرور الرقم القياسي في تولي رئاسة مجلس الشعب، بـ " 21 " عام لم يسبقه فيها غيره، ولا أتصور أن يلحق به احد لكسر هذا الرقم، وخلالها حقق إنجازًا عالميًا يصعب على أى من رؤساء برلمانات العالم تكراره، وهوتوليه رئاسة اتحادات البرلمانات العربية، والإسلامية، والأورومتوسطية، والأفريقية، والدولية، ولوكان متاحًا لتولى أيضاً منصب رئيس البرلمان الأوروبى!
وتولى أيضًا رئاسة المعهد الدولى للقانون بفرنسا لمدة 12 عامًا بالانتخاب خلفًا لرئيس الوزراء الفرنسي " ريمون بار "وشهدت له أروقة كل هذه المنظمات الدولية بقدراته وكفاءاته رغم الانتقادات الحادة التي يواجهها فى الداخل إلى حد اتهامه بأنه أحد " ترزية " القوانين في مصر، وقد واجهته بذلك في أحد حواراتي الصحفية معه، وهى التهمة التى اعتبرها سرور ( بنظرة خاصة جدًا ) تكشف عن قدراته كواحد من أبرز فقهاء القانون فى العالم، واجاب: "إن تفصيل القوانين يحتاج لترزى شاطر"، وقتها اعتبرت إجابته من قبيل الزهو والاعتداد بالذات، لكنني فهمت مقصده، وقد تابعت "مسخرة" خروج التشريعات من البرلمان الذي سيطر عليه "الإخوان".
وكان لهذا الرجل "الفلتة" طريقته الخاصة فى قيادة البرلمان، ويتألق فى إدارة الجلسات مهما كانت سخونتها، وفي الوقت الذي كان يعطى لرئيس كتلة الإخوان ( محمد مرسي ) وقتاً إضافياً يكاد يتساوى مع رؤساء الكتل البرلمانية الأخرى، كان يحرص أيضًا على الإشارة إلى أنه يتعامل معهم كمستقلين، وقام ذات مرة بطرد "مرسي" من القاعة بعد أن تجاوز حدود الأدب في كلمته.
وامتلك الدكتور سرور من الفراسة، التي مكنته من معرفة قدرات و"مقاسات" نواب البرلمان، ومن خلالهم كان بإمكانه إحياء الجلسات الميتة، وإطفاء لهيب الجلسات الساخنة، واعترف خلال لقاء فى مكتبه مع المحررين البرلمانيين بأنه كان يدخر نائبًا مثل القدير البدرى فرغلي لـ "وقت عوزة"، ويعطيه الكلمة إذا شعر بفتور المناقشات، ويعطى الكلمة أحيانًا لنائب ثرثار لا يفهم أحد من كلامه شيئًا للسيطرة على الأجواء المتوترة لبعض الجلسات.
ومع نواب المعارضة، كان سرور يستثمر توجهات نواب حزب الوفد فى تمرير القوانين ذات الصلة بنظام الاقتصاد الحر، ويستعين بنواب حزب التجمع لتمرير قوانين أخرى تؤكد سلطة الدولة على مفاتيح الاقتصاد الموجه.
زرت الدكتور سرور في مكتبه عقب ثورة "30 يونيه" لأعرف رأيه فيما جرى، وتوقعاته لما بعدها، وقال إن ضروريات المرحلة ومتطلباتها اقتضت ظهور الرئيس عبد الفتاح السيسي، ووصفه بـ "الملهم والمنقذ الذى وحد المصريين في وجه الإرهاب".
وفي لقاء آخر، أكد سرور أن عظمة الشعب المصري تمثلت كاملة عندما وثق فى " السيسى " الذي نجح في تحقيق أحلام كثيرة كانت تبدوكخيالات فى أذهاننا لكنها أصبحت واقعًا ملموسًا، واهمها على الإطلاق هزيمة الإرهاب، وهزيمة الدول الداعمة له.
يبقي أن أشير إلى ما أراه اخطر اعترافات الدكتور سرور، فكثيرًا ما حاولت دفعه لإجراء حوارات صحفية ولقاءات تلفزيونية، وكان يرفض بإصرار، وعندما قلت له أن للتاريخ عليه حق، قال : " ابتعدت عن السياسة بكل متاعبها، وكنت اتمنى لولم اقترب منها في حياتي، ولن أعود إليها مهما كانت الإغراءات "كانت قناعة الدكتور فتحي سرور التي تبلورت في السنوات الأخيرة أن عمله بالسياسة قد ظلمه كثيرًا، وقلت له : ولكن علمك ومكانتك كفقيه قانوني قدير أنصفك، واجاب : ربما.
ويكفي الدكتور سرور إنصافًا، ما لقيه من تقدير ومحبة، عبر عنها المحزونون لرحيله، بعد أن ترك أفضل أثر يمكن لإنسان أن يتركه في دنيا الفناء.
