الكاتب الصحفى طه خليفة يكتب .. الملك المصري .. بين احترافية أديب وضعف إسعاد !

(1)

يوما الخميس والجمعة، 3 و4 مارس الجاري، بثت قناة (دي إم سي) المصرية الخاصة، والقناة الأولى بالتلفزيون المصري، في نفس التوقيت، اللقاء الذي أجرته إسعاد يونس في لندن، مع لاعب كرة القدم محمد صلاح، نجم فريق ليفربول الإنجليزي، وقائد المنتخب المصري، ومدته 153 دقيقة، وتم إذاعته على جزئين.
تماماً، مثلما فعلت قناة (إم بي سي، مصر)، وهى تنتمي لشبكة (إم بي سي) السعودية، مع اللقاء الذي أجراه عمرو أديب، مع محمد صلاح أيضاً، في لندن، واستغرق 140 دقيقة، وأذاعته على جزئين، يومي 8 و9 ديسمبر الماضي.
(2)
محمد صلاح اسم عالمي كبير في كرة القدم، والقنوات والجرائد والمجلات من مختلف بلدان العالم تتهافت لإجراء مقابلات معه، وطبيعي أن تسعى وسائل الإعلام المصرية إليه، باعتباره مصرياً مرتبطاً بوطنه، والحوار معه مكسب لأي وسيلة إعلامية.
ولأنه نجم كبير، وضمن أفضل ثلاثة لاعبين على مستوى العالم حالياً، وبالحماسة الوطنية نعتبره في مصر أحسن لاعب في العالم، وهكذا قدمه عمرو أديب في الحوار، وزادت عليه إسعاد يونس بأن جعلت منه أسطورة، ولهذا، فالوصول إليه ليس سهلاً، باعتبار وقته ثميناً جداً، فهو وحياته ونمط معيشته مِلك ليفربول ناديه الإنجليزي الذي يدفع له أسبوعياً 200 ألف جنيه استرليني ليكون أعلى اللاعبين أجراً في الفريق، وبالتالي عليه أن يتدرب عدداً معيناً من الساعات يومياً، ويأكل وفق نظام خاص، وينام ويصحو في مواعيد محددة، وأجازاته وحركاته وسكناته محسوبة جيداً حتى يظل جديراً بالبقاء ضمن صفوف اللاعبين في ليفربول، وحتى يستحق المبلغ الكبير الذي يتقاضاه كل سبعة أيام، ولكي يظل نجماً لامعاً في ساحات الملاعب الإنجليزية والأوروبية، وبالتالي ترتفع أسهمه، ويسيل لعاب الأندية الكبرى لضمه إليها، مما يجعل ناديه يتمسك به أكثر، وعندما يحين تجديد عقده يدفع له ما يطلبه.
وبالفعل، المفاوضات جارية منذ فترة بين وكيل محمد صلاح، وبين ليفربول، لتجديد العقد لسنوات أخرى، وقد رفع صلاح المبلغ الذي يطلبه إلى 500 ألف جنيه استرليني أسبوعياً، أي 2 مليون شهرياً، أي 24 مليوناً سنوياً، وإذا تحقق مطلبه فسيكون أغلى لاعب في تاريخ النادي، مثلما كان أغلى لاعب تعاقد معه ليفربول عند انضمامه إليه عام 2017، كما أنه ضمن أغلى اللاعبين في العالم.
أكثر وصف تم إطلاقه على صلاح، هو (الملك المصري)، ويُطلق عليه البعض وصف، (الفرعون المصري)، ويتم اختصار اسمه على لسان مشجعي ليفربول ومحبيه في بريطانيا والعالم الغربي إلى (مو صلاح)، و(مو) هى اختصار لاسم محمد، وشخصياً أحب نطق محمد صلاح، وليس (مو صلاح)، محمد هو أغلى الأسماء، فهو اسم النبي صل الله عليه وسلم، ولا يجب اختصاره أو اختزاله، وربما نلتمس العذر للأجنبي الذي لا يتحدث اللغة العربية لأنه ينطق حرف الـ (حاء) غير الموجود في الأبجدية الإنجليزية إلى (هاء)، فيكون صعباً عليه نطق الاسم، فيختصره إلى (مو)، لكن لاعذر لمن يتحدث العربية أن يناديه مثل الإنجليز.

(3)
دفعت قناة (إم بي سي، مصر) في لقاء صلاح 650 ألف دولار، أي 10 ملايين جنيه مصري، حسب الاتفاق مع وكيل اللاعب ونادي ليفربول، فالنادي له الحق في التدخل في كل كبيرة وصغيرة في حياة لاعبه، وقد أكدت القناة السعودية التي تبث في مصر، ولها وضع خاص، هذا الاتفاق والمبلغ الذي دفعته.
وعندما بدأت إسعاد يونس التنويه عن لقائها مع صلاح، قيل إن قناة (دي إم سي) دفعت مليون دولار، أي 16 مليون جنيه مصري، وقد نفت القناة تسديد هذا المبلغ، وحتى الآن لم يتم التصريح بحقيقة الاتفاق مع وكيل اللاعب وناديه الانجليزي، وتقديري أن القناة المصرية المملوكة للشركة المتحدة للخدمات الإعلامية - وهى شركة كبيرة في مجال الإعلام والدعاية والإنتاج الفني، ويتردد أنها مملوكة لجهة ما في مصر - دفعت مبلغاً لن يقل عما دفعته القناة السعودية.
ومهما كانت القيمة المالية المدفوعة في مثل هذا اللقاء، فإنه يتم تغطيتها بل وتحقيق أرباح، من حصيلة الإعلانات التي يتم بثها قبل وأثناء وبعد إذاعة المقابلة، وما أحصيته من إعلانات بلغ 11 خلال بث (دي إم سي) للمقابلة مع صلاح، وربما العدد أكثر من ذلك.
وبالنسبة للقناة السعودية، فقد لا تقلق كثيراً بألا تغطي الإعلانات نفقات الحوار، فهى تتبع مؤسسة إعلامية سعودية كبيرة، وتُرصد لها موازنة سنوية ضخمة، ولهذا قد لا يشغلها تحقيق أرباح، بقدر ما تهتم بنشر أهداف عبر رسالتها الإعلامية.
أكثر ما ميز لقاء صلاح مع القناة المصرية قبل إذاعته، هو مبلغ الـ 16 مليون جنيه، فقد أثار جدلاً واسعاً على مواقع التواصل، واستهلك وقتاً ونقاشاً، وما ميز التنويه عن لقاء صلاح مع القناة السعودية، هى الفقرة التي تحدث فيها عن أنه لا يشرب الخمر لأنه لا يشعر برغبته فيها، ونفسه لا تهفو إليها، وانقسم النقاش على مواقع التواصل بين فريق يعتبر إجابته طبيعية وعفوية ولا مشكلة فيها، وفريق آخر رأى أنه تهرب من الإجابة الصحيحة، وهى أن شرب الخمر حرام في الإسلام، وأنه لم يتحدث عن تحريم شرب الخمر مراعاة لوجوده في مجتمع يسود فيه احتساء الخمور حفاظاً على كونه لاعباً مشهوراً واستمراراً لوجوده بالملاعب.
(دي إم سي)، قد تنشغل بالعائد المادي لتحقيق الربح، وفي نفس الوقت قد لا تقلق إذا لم يتوازن العائد مع الإنفاق على التشغيل، فهناك أهداف إعلامية داخلية لها أهم من أي عوائد مالية.
(4)
ومن التنويه الدعائي الواسع للقناة المصرية لحوار صلاح، أو الملك المصري، والاحتفاء به، والمبالغة في وصف اللقاء بالتاريخي، وإعداد أكثر من تقرير عنه مع أطفال وشباب وشخصيات رياضية، والذهاب بالكاميرا إلى قريته، يُلاحظ أنه يتم تقديم اللاعب باعتباره قدوة، فالأطفال الصغار يريدون أن يكونوا مثله، لاعبين مميزين محترفين، ويتم تصويره في مجمل مضمون اللقاء بأنه النموذج للمصري المتفوق.
والحقيقة أن نجاح صلاح نتاج جهد فردي منه، وقد صعد لأعلى وهو في الخارج، وليس في مصر، وهو مثل أحمد زويل، ومجدي يعقوب، ومحمد البرادعي، ومصطفى السيد، وهاني عازر، ومحمد العريان، وعصام حجي، وغيرهم من نماذج مصرية حققوا تفوقهم وتألقهم في الخارج، وحصدوا الجوائز لوجودهم في بلدان أجنبية، مع الفارق بين صلاح، وبين من ذكرتهم في نوعية أعمالهم، وطبيعة وديمومة استفادة البشرية من إنجازاتهم.
وغالبية قصص النجاح لمصريين تُنسب للخارج، وليس للداخل الذي لا يساعد أو يشجع على التفوق وتقديم منجز علمي أو فكري أو حضاري ينافس ويتفوق في السباقات العالمية.
(5)
إسعاد يونس بالغت في خلع الأوصاف على صلاح، والارتفاع به لمرتبة الأسطورة، وقد ظهر ضعفها في الحوار المتخصص العميق، وهى اعترفت بذلك، وقالت إنها (طشت) في كرة القدم، أي لا تفهم شيئاً فيها، وحتى تغطي على هشاشتها قالت إنها تحاوره باعتبارها أم تتحدث مع ابنها، ولهذا كان اللقاء مجرد دردشات وحواديت تتعلق بالحياة الشخصية لـ محمد صلاح دون الخروج من الحوار، الذي تم التنويه المكثف عنه، بفوائد معقولة.
بعكس عمرو أديب الذي أدار نقاشاً جيداً، شمل صلاح اللاعب، وصلاح الإنسان، وكان الحوار مرتفع المستوى، ويليق بالجهد المبذول فيه لأشهر في الترتيب والإعداد كما يليق بالمبلغ المدفوع.
إسعاد ليست إعلامية، وأسوأ ما فيها هو استظرافها، وطريقتها المصطنعة في الكلام، ومحاولة إدعاء خفة الدم، أو استحضار روح الكوميديا، وهى لم تترك أثراً في الكوميديا خلال عملها بالتمثيل، ولا نتذكر لها عملاً بارزاً، باستثناء مسلسل اسمه، (بكيزة وزغلول)، والفضل في نجاحه الجماهيري يرجع للفنانة القديرة الراحلة سهير البابلي.
(6)
لا يجب أن نبخس صلاح حقه، فقد اجتهد وتعب على نفسه كثيراً، ولم يكن طريقه للملاعب مفروشاً بالورود، أو سهلاً على الإطلاق، يكفي أن نعرف أنه كان يسافر من قريته في محافظة الغربية إلى نادي المقاولين العرب بالقاهرة قاطعاً مئات الكيلومترات لمدة خمسة أو ستة أيام كل أسبوع لكي يتدرب ويلعب مع الناشئين ويحافظ على وجوده بالنادي.
ومن أسف أن كرة القدم تتدخل فيها الواسطة والعلاقات الشخصية أيضاً، وما لم يكن للاعب الموهوب أحد يدعمه، فإنه قد يواجه الطرد حتى يأخذ مكانه لاعب مسنود، وليس شرطاً أن يكون موهوباً، فالتوريث يتمدد ويتغلغل في الملاعب أيضاً.
صلاح كافح كثيراً، ولم يحصل على فرصته في مصر، الفرصة طرقت بابه للعب في أحد أندية أوروبا، وهناك لفت الانتباه، فانتقل من ناد لآخر حتى استقر به المقام في ليفربول، ومن هذا النادي برزت موهبته كاملة، وانطلق عالمياً، وحجز له مكاناً بين أهم لاعبي العالم.
صلاح إنسان بسيط، وهو قدوة في معنى الكفاح والجهد والصبر وبناء النفس وتنمية الموهبة ، لكنه ليس القدوة، معنى القدوة أوسع بكثير مما يتم ترويجه في حالة صلاح، أو أي لاعب كرة قدم موهوب، القدوة الجديرة بالتسجيل في التاريخ هى لمن يقدم خدمات للبشرية يستفيد منها الناس على مدار الزمان.
(7)
في تقديري أن المعنى الأوسع والأنفع للقدوة يتحقق هذه الأيام في شخصيات العالِم والباحث والطبيب الذي توصل إلى لقاح فيروس كورونا، ذلك أن جهود وإنجازات هؤلاء العلماء يفيد البشرية كلها، اليوم والغد.
ففي ظل الجائحة، توقف اللعب، وأُغلقت أبواب الملاعب، وأُطفئت أنوارها، ولم يتأثر العالم بغياب كرة القدم ومختلف الأنشطة الرياضية، لكن العالم كان يقدم مئات ألوف المصابين والوفيات يومياً جراء الفيروس، والعالم كان ينتظر على أحر من الجمر ما سوف تتوصل إليه العقول النابهة في معاملها لإنقاذ البشرية باللقاح، هؤلاء هم القدوة والنموذج الذي يثير الفخر والتباهي.
أخشى أن تتسبب الهالة التي يتم نثرها حول محمد صلاح في تكريس فكرة أنه النموذج الواجب الاعتبار به، والسير على نهجه، وتنصرف الأنظار عن نماذج أكثر نفعاً للناس، مثل العامل في مصنعه، والفلاح في أرضه، والمهندس في مشروعه، والطبيب في مستشفاه، والصيدلي بين أدويته، والباحث في معمله، والمثقف مع كتبه وأفكاره، والداعية على منبره، والسياسي وسط الناس يدعو للحرية والكرامة والحقوق والعدالة.
كرة القدم، وبقية الألعاب الرياضية، لها وجود عالمي، وجمهور واسع، والفن بألوانه المختلفة ينشط في كل بلد، وجميع روافد القوى الناعمة لها أهمية ودور في المجتمعات، لكن هذه الروافد ليست وحدها التي تجعل الحياة مستمرة، وليست وحدها التي تقيم الحضارة، هى عوامل مساعدة، إنما العقل والفكر والعلم والبحث، هى القواعد الرئيسية في صنع التنمية، وبناء الحضارة، وإعمار الأرض، واستمرار الحياة، وتوفير الراحة والسعادة للإنسان.
[email protected]