لموا الآلات يا ولاد.. عندما لقنت أم كلثوم مدير أكبر مسارح العالم درسا فى الكرامة
لم تكن كوكب الشرق أم كلثوم مجرد صوت استثنائى وأسطورة غنائية تعيش فى برج عاجى، بل كانت نموذجاً لـ"بنت البلد"، التي تجمع بين البساطة والهيبة، خفة الدم والحكمة، البساطة والحزم.
عرف كوكب الشرق متى تنسحب ومتى يكون الحضور فرضًا
كانت تفهم أم كلثوم الأصول كما يفهمها "ولاد البلد الجدعان"، تعرف متى تتقدم ومتى تنسحب، متى يكون الحضور فرضًا، ومتى يكون الغياب احترامًاً، متى تنهى موقفاً بمزحة ذكية وسرعة بديهة، ومتى تتخذ موقفاً حازماً صارماً ينبع من اعتزازها بنفسها أو غيرتها على وطنها.
أم كلثوم كانت تعتز بوطنيتها وبنفسها
وكان لأم كلثوم موقفاً مشرفاً لا ينسى على مسرح الأوليمبيا فى باريس، يظهر كيف كانت تعتز بوطنيتها وبنفسها ولا تقبل تقديم أى تنازلات أو مواربة فى المواقف، وهو الموقف الذى حكاه الكاتب الكبير محمد سلماوى فى مذكراته "يوماً أو بعض يوم".
وأشار سلماوى الذى كان شاهداً على هذا الموقف إلى أنه فوجئ فى الاستراحة بـ"كوكاتريكس" مدير مسرح الأولمبيا يطلب منه التوجه معه إلى أم كلثوم، حيث كان كثيرا ما يحتاج إلى الترجمة فى حديثه معها لأنها لم تكن تحدثه إلا باللغة العربية، رغم أنها كانت تجيد الفرنسية.
وتابع سلماوى: "كان عازف الكمان الأول أحمد الحفناوى إلى جوارها، وبقية أعضاء الفرقة يستمعون إليها وهى تبدى بعض الملاحظات، فحياها كوكاتريكس وقبل يدها، فردت عليه التحية من دون أن تنهض من كرسيها، فأبدى مدير المسرح اعتراضه على طريقة تقديم الوصلة الأولى من الحفل التى تحدث فيها المذيع حديثا سياسيا ليس هذا مجاله، على حد قوله، وكان جلال معوض قد قدم الحفل باعتباره نصرا سياسيا للعرب، وقال: «اليوم تشدو كوكب الشرق فى عاصمة النور باريس، وغدا بإذن الله تشدو فى القدس المحررة»، وناشد كوكاتريكس أم كلثوم أن تطلب من المذيع ألا يقدم الوصلة الثانية بهذه الطريقة الحماسية، مضيفا: "نحن فى حفل فنى، ولسنا فى مناسبة وطنية".
وأوضح الكاتب الكبير أنه شعر بالحرج من الموقف، وتحير كيف سيترجم ذلك لأم كلثوم، لعلمه بأنها لن تقبل هذا الكلام، لكنه وجدها تنتفض واقفة وقد فهمت من دون ترجمة كل ما قاله المدير اليهودى للمسرح، وقالت: «قل له بل نحن فى مناسبة وطنية، وإنى جئت إلى فرنسا من أجل المساهمة فى المجهود الحربى لبلادى، وإذا كان أسلوبنا لا يروق له فليعتبر اتفاقنا لاغيا، ثم التفتت إلى الموسيقيين وقالت لهم "لموا الآلات يا ولاد".
يصف سلماوى رد فعل مدير المسرح، مؤكداً أنه كاد يغشى عليه، وأمام اعتذاراته المتكررة وتوسلاته المتلاحقة، تراجعت أم كلثوم، وقدم جلال معوض الوصلة الثانية من الحفل التاريخى دون أن تحاول أم كلثوم كبح حماسه الوطنى.
وهكذا كانت كوكب الشرق قوية حاسمة واضحة فيما يخص مواقفها الوطنية، حتى وإن كان الثمن أن تلغى حفلها على أكبر مسارح العالم، رافضة أن يملى عليها شخص اياً كان ما يخالف قناعتها ورسالتها.
























