سلماوى في افتتاح” الشارقة للكتاب ”: الحرب الوحشية على غزة هي محاولة للقضاء على الهوية العربية
قال الأديب الكبير محمد سلماوى، خلال تكريمة شخصية العام الثقافية في معرض الشارقة الدولي للكتاب بدورته ال 44، يسعدني في هذه المناسبة المفعمة بالمعانى النبيلة أن أقف أمامكم لأعبر عن خالص امتناني لهذا التكريم الذي أعتز به أيما اعتزاز، فهو يتعدى كونه تكريما شخصيا ليغدو احتفاء بالثقافة ذاتها، وبما تمثله من نور يهدينا إلى ذواتنا في زمن كثر فيه التخبط والضياع.وكان حاكم الشارقة سمو الشيخ الدكتور سلطان بن محمد القاسمى قد افتتح فعاليات الدورة الجديدة وسط حضور عربى كبير .
وتابع. تحية لإمارة الشارقة نبع الثقافة المتدفق، والذى انبثق وسط صحراواتنا الذهبية كعروس تنشر جدائلها اللؤلؤية خيوطا من الفن والجمال على العرب جميعا.
وأشار الأديب محمد سلماوى، إن التكريم الذى أنعم به اليوم باختيارى شخصية العام الثقافية فى معرض الشارقة الدولى للكتاب، إنما يجيء تتويجا لتكريمات الشارقة المتواصلة للثقافة والمثقفين، فقد سبق أن كرمتنى الشارقة وكرمت كل المثقفين العرب يوم كرمت الكتاب بإقامة هذا المعرض قبل أربعة عقود من الزمان احتفاءا بالفكر والمعرفة، وكرمتني الشارقة وكرمت كل المثقفين العرب يوم شيدت المتاحف وأقامت المعارض وعقدت المؤتمرات والندوات احتفاءا بتراثنا العريق وبفنوننا المعاصرة، وكرمتنى الشارقة وكرمت كل المثقفين العرب يوم اختارت الثقافة نهجا فصارت اليوم عن جدارة واحدة من أهم مراكز الإشعاع الثقافى فى وطننا العربى.
وأكد أن الشارقة باحتضانها للثقافة إنما تتبنى واحدة من أهم القضايا المصيرية التى تواجه الوطن العربى فى الوقت الحالى، وهى قضية الهوية، فالثقافة كانت وستظل دوما هى عنوان هويتنا العربية، هى المرآة التي نرى فيها قسمات وجهنا العربى الأصيل الذى لفحته شمس حضارة مجيدة ضاربة فى عمق الزمان، وهى الوعاء الذي حفظ وجدان الأمة عبر قرون التاريخ. إنها البصمة التي تفرّق بين التبعية والاستقلال، بين الذاكرة والنسيان، بين أن نكون أمةً لها صوت ورسالة، أو أن نتحوّل إلى شتاتٍ من الأصوات المبعثرة هنا وهناك.
ولعل ما نشهده اليوم من تفككٍ وانقسام في الجسد العربي لا دواء له، ولا شفاء منه، إلا بإدراك هويتنا القومية الجامعة، والعودة إلى ثقافتنا العربية الواحدة، فهويتنا الثقافية القومية وحدها القادرة على أن تجمع فرقتنا كما تلملم الأم صغارها حتى لا يضلوا الطريق، إن الهوية القومية هى عنوان كينونتنا، بل هي شرط وجودنا.
وأضاف الأديب محمد سلماوى، لقد كانت هويتنا الثقافية فى مختلف عصور التاريخ هى المستهدف الأول لأعدائنا، فكانت مكتبة الأسكندرية القديمة أول ما احترق عند غزو الرومان لمصر فى القرن الأول قبل الميلاد، كما كانت متاحف بغداد هى أول ما نهب عند غزو رومان العصر الحديث للعراق فى القرن الواحد والعشرين بعد الميلاد، وإن ما نشهده فى غزة اليوم من تدمير وحشى هو محاولة أخرى للقضاء على الهوية العربية لهذا الجزء العزيز من الوطن بعد أن فشلت محاولات طمس تلك الهوية بمخططات التهويد البائسة على مدى العقود الماضية، لذا جاءت أخيرا محاولة القضاء على الإنسان العربى نفسه عن طريق حرب الإبادة الوحشية المستعرة نيرانها منذ أكثر من سنتين، فالإنسان العربى والهوية الثقافية صنوان، كنخلتين ينموان من جذع واحد .
وتابع، ولقد طغت أخبار القتل والدمار على رؤية العالم لغزة باعتبارها بؤرة نضال صامدة إعترف لها العالم كله بالنبل والجسارة، بالشرف والشرعية، بعد ما أشهدته على إبداعها المتفرد فى المقاومة والصمود، وفى خضم الحرب نسى البعض أن غزة واحدة من أقدم مدننا العربية، وأن جذورها تعود لأكثر من ثلاثة آلاف وخمسمائة عام، وتدميرها يكاد يكون تدميرا لحضارات العالم كلها، فهى تحتضن آثارا مصرية قديمة وإغريقية ورومانية وبيزنطية وكنعانية وفينيقية وإسلامية ومملوكية وعثمانية، ومع حملات القتل والتجويع، غفل العالم عن خطط القضاء على تاريخ القطاع وهويته، فجرى تدمير أكثر من مائتى معلم من أهم المعالم الأثرية النادرة على أيدى جحافل التتار الجدد، من بينها مسجد السيد هاشم الذى يضم قبر هاشم بن عبد مناف جد النبى، وكنيسة برفيريوس ثالث أقدم كنائس العالم قاطبة، والمقابر الرومانية التى يعود تاريخها لأكثر من ألفى عام، إن الآثار الحجريّة قد يسهل تدميرها لكن كيف تمحو الهوية الثقافية للشعب، وللأرض، وللتاريخ؟! إننا إذ نلتقي اليوم في كنف الشارقة الغالية، إنما نرفع معاً راية الثقافة العربية الصامدة، في فلسطين كما في العراق وسوريا وليبيا والصومال واليمن والسودان، نرفعها إعلاناً للانتماء، وإيماناً بأن الثقافة هي آخر خطوط الدفاع عن الإنسان العربي وكرامته، بل وضمانا لمستقبله.
ولفت إلى أن الحديث عن الثقافة يقودنا حتما للحديث عن اللغة، فاللغة هى الحرف الأول فى الأبجدية الثقافية، ولغتنا العربية التى خلدها القرآن هى أبلغ لسان عرفه البشر، فهى أكثر اللغات ثراءا وأطولها ديمومة، هى وعاء فكرنا العربى، وهى ضمير وجودنا الإنسانى، وقد رأينا لغات عريقة تندثر وتزول مع الأيام، كاللاتينية والعبرانية والآرامية والسومارية والأكادية وغيرها، بينما بقيت العربية نابضة فى القلب والوجدان، لسانا للملايين وجسرا بين الماضى والمستقبل، وما يدمى القلب هو أن يحمل أبناء اللغة أنفسهم معاول هدمها. إنى مازلت أذكر حين تفضل سمو الشيخ سلطان قبل أكثر من عشر سنوات باستقبال وفود الأدباء العرب المشاركين فى مؤتمر الإتحاد العام للآدباء والكتاب العرب الذى شرفت برئاسته لثلاث دورات متتالية، أن أكد أن الأدباء هم حماة اللغة، وأشار سموه إلى أعدائنا الذين أعادوا اختلاق لغتهم الحالية من لسان قديم كان قد اندثر منذ قرون، بينما نكاد نحن نقتل لغتنا الحية بأيدينا، فنطمس معالمها بكلمات وتراكيب لغوية أجنبية.. وإذا طمست اللغة فأنا لنا أن ننهض بثقافتنا إذا كان لساننا هجين مستعار من لسان الآخرين؟.
وأوضح أن اللغة هى اللبنة الأولى للثقافة، وبتطورها السليم تتخطى الثقافة كونها حصاد الحضارة والتاريخ، لتصبح أيضا مشروعٌ المستقبل الذى نتطلع إليه، وسلاح المقاومة ضد محاولات التذويب والتهميش والنسيان. فمن يملك لغته الأصيلة، وينتمى لثقافته القومية، ولتاريخه المتجذر، لا تقتلعة العواصف، حتى وإن خسر معركة سياسية هنا، أو واجه أزمة إقتصادية هناك.
وقال إنى أعد لقاءنا هنا فى معرض الشارقة دعوة متجددة لمواصلة الطريق، طريق الإيمان بثقافتنا العربية المشتركة، وبفكرنا المستنير، وذلك عبر الكلمة والكتاب، طريق الإيمان بالإنسان العربى الواحد فى كل الأقطار العربية، من مصر للإمارات، ومن اليمن للمغرب، ومن سوريا للبحرين.. الإنسان القادر على النهوض بأمته متى استعاد وعيه بنفسه وبتاريخه وبثقافته.
إنى أتصور اجتماعنا هنا دعوة إلى مزيد من الإيمان بدور المثقف العربي، لا بوصفه شاهدًا على عصره، بل باعتباره فاعلا مؤثرا فيه، ومسؤولا عن إضاءة مشاعله وسط العتمة التى يحاول البعض فرضها علينا، بقتل لغتنا وتدمير آثارنا ومحو هويتنا. إن المثقف هو المسئول عن إعادة ثقافتنا العربية إلى مكانها الأول: فعلًا من أفعال الوجود والحرية وتحقيق المستقبل المشرق الذى تستحقه هذه الأمة.
واختتم سلماوى حديثه قائلا: إن الثقافة في معناها العميق، أيها السادة، هي فعلُ محبة. محبةٌ للإنسان وللحياة وللمستقبل. ومن هذه المحبة يمكن أن نبدأ رحلة لملمة الشتات العربي، لا بقراراتٍ سياسية زائلة، بل بوعيٍ ثقافي راسخ يُعيد للإنسان العربي ثقته بذاته وانتماءه لأمّته، فلتكن ثقافتنا وطنٌ لا يُحتل، وجسرٌ لا يُهدَم، وصوتٌ لا يصمت.





















