الكاتب الصحفى سامح لاشين يكتب : انتقل مبنى النواب .. فهل تحقق الانتقال الديمقراطي؟
الانتقال الحقيقي لا يكمن فقط في انتقال المبان، وإنما في تطور المعاني والأفكار. فلا معنى للاحتفال بالديكور والزخارف، بينما لم يحدث انتقال حقيقي في القضية المحورية الأهم، تلك التي نبحث عنها منذ قرون ونسعى لتحقيقها: الديمقراطية.
ولا معنى في تصوري للزهو بانتقال مجلس النواب من قلب عاصمة مصر التاريخية، القاهرة، إلى ما نُسميه بالعاصمة الجديدة، في ظل غياب انتقال حقيقي للديمقراطية التي تمنح المبنى معناه ووظيفته. وإلا تحوّل إلى مجرد ديكور فاخر يتزين به الوطن، بلا روح ولا مضمون.
يأتي هذا الانتقال الجغرافي بعد تعثّر الانتقال إلى الديمقراطية الحقيقية، ووسط مشهد من الهندسة السياسية تعثرت فيه الولادة القيصرية لانتخابات مجلس النواب الجديد. وفي تقديري، فإن المجلس القادم هو الأهم خلال السنوات الخمس المقبلة، لما ينتظره من مهام جسيمة، على رأسها تعديلات دستورية وتشريعية مصيرية.
ولكن، وكالعادة، تأتي الرياح بما لا تشتهي السفن. لماذا؟
لأن هذا المجلس شهد حجمًا غير مسبوق من الطعون، وإعادة الانتخابات في 49 دائرة من دوائر المرحلة الأولى، فضلًا عن الطعون التي لا تزال تنظرها المحكمة المختصة بحق من أُعلن فوزهم. وحتى مع إعادة الانتخابات، مثّلت المشاركة السياسية تذبذبًا خطيرًا وضعفًا شديدًا في عدد كبير من الدوائر، إلى جانب فقدان الثقة في الكيانات الحزبية التي يُفترض أن تشكل عمود الحياة السياسية.
كل ذلك يجعل من المجلس القادم – الذي كان مخططًا له أن يظهر في أبهى صورة – مولودًا مشوّهًا سياسيًا، رغم بيته الكبير القائم في العاصمة الجديدة. وهو مجلس لا يجوز، من حيث المواءمة السياسية والمنطق الديمقراطي، أن يُناط به قيادة تعديلات دستورية أو الترويج لها، ولا تمرير قوانين لا تعير المواطن اهتمامًا حقيقيًا، ولا تمس همومه وحقوقه الأساسية.
لقد رحل المبنى من مكان إلى آخر، ولا نعرف أيهما كان أو سيكون أسعد حالًا، فالمبنى التاريخي كان شاهدًا على ضياع الديمقراطية أكثر مما كان شاهدًا على تحققها.
كان شاهدًا على دستور تم إيقاف العمل به بقرار من الملك فؤاد، الديكتاتور الكبير، حين أوقف دستور 1923 وأنتج دستور 1930 في محاولة للإمساك بكل خيوط اللعبة السياسية. وكان شاهدًا على حل البرلمان في عهد الملك الشاب فاروق، وتعاقب الحكومات بوتيرة عبثية، أشبه بتبديل جوارب الأقدام.
وكان المبنى شاهدًا على تغيير مسماه من مجلس النواب إلى مجلس الأمة في عهد جمال عبد الناصر، حيث كان أعضاؤه جميعًا بالتعيين في برلمان الوحدة، برلمان الجمهورية العربية المتحدة. وشهد احتكار الاتحاد الاشتراكي باعتباره التنظيم السياسي الأوحد، كما شهد الانكسار الكبير في عام 1967.
وفي سبعينيات القرن الماضي، كان شاهدًا على تغيير اسمه مرة أخرى إلى مجلس الشعب، وشاهدًا على لحظات الانتصار والغضب معًا، وعلى خطب السادات وصداماته الكهربائية، منذ إعلانه الذهاب إلى إسرائيل، مرورًا بخطاب النهاية الذي شن فيه هجومًا ضاريًا على خصومه السياسيين في الداخل والخارج، قبل أن تطاله يد الإرهاب في حادث اغتياله، ليُسدل الستار على واحدة من أخطر الفترات في تاريخ الدولة المصرية الحديثة.
وكان المبنى شاهدًا كذلك على أحكام المحكمة الدستورية بحل البرلمان مرتين خلال السنوات العشر الأولى من عهد مبارك، ثم على انتخابات فردية أفرزت نوابًا من طبقة اجتماعية واحدة تقريبًا، واستمر هذا الوضع حتى انتخابات 2010، التي جاءت ببرلمان كان أحد الأسباب الرئيسية لرحيل مبارك نفسه.
وشهد المبنى التاريخي رئيسًا لمجلس النواب من جماعة الإخوان، ثم حل البرلمان، وانعقاد مجلس الشورى في عهد الإخوان داخل قاعة النواب ذاتها الذين أرادوا اختطاف مصر واختزالها في صورة جماعة هي الأشد عداوة للديمقراطية .
كانت الجدران شاهدة على انتهاك فكرة الديمقراطية، والقفز عليها، والالتفاف حولها، ووأدها، وعلى غياب الإيمان الحقيقي بها وشهدت الجدران ديمقراطية موجهة،شهدت احتكار السلطة، وكيف سيطر أصحاب النفوذ والثروات للحفاظ على مصالحهم. كانت الجدران شاهدة على اغتيال الديمقراطية.
ويبقى السؤال مفتوحًا:
هل ستكون الجدران الجديدة، الفارهة، عالية التكلفة، شاهدة على أحداث مختلفة ووقائع مغايرة؟، أم أن الجدران القديمة والجديدة ستظل معًا شاهدة على غياب الديمقراطية، تلك القضية التي حلم بها الإنسان المصري طويلاً، باعتبارها الطريق إلى العدالة، والمساواة، وتكافؤ الفرص بين الجميع دون تفرقة؟
كاتب المقال الكاتب الصحفى سامح لاشين مدير تحرير جريدة الاهرام
























