الدكتورة شاهيناز عبد الكريم تكتب: القمة الأولى بين مصر والاتحاد الأوروبي... شراكة تتجاوز المصالح إلى صناعة المستقبل
لا يمكن قراءة زيارة الرئيس عبد الفتاح السيسي إلى العاصمة البلجيكية بروكسل، في أكتوبر 2025، باعتبارها حدثًا دبلوماسيًا عابرًا أو لقاءً بروتوكوليًا بين طرفين، بل هي لحظة فارقة تعيد رسم خريطة العلاقة بين مصر والاتحاد الأوروبي، وتفتح الباب أمام مرحلة جديدة من التعاون تُبنى على «الشراكة الاستراتيجية الشاملة» التي أُعلن عنها في مارس 2024.
في ظل عالم مضطرب، تتغير فيه خرائط القوة بسرعة مذهلة، تتقدم مصر لتصبح مركز توازن في محيط إقليمي يغلي بالأزمات. فالقارة الأوروبية التي تواجه تحديات أمنية واقتصادية متلاحقة، تدرك أن استقرار ضفتها الجنوبية لن يتحقق إلا بشراكة حقيقية مع دولة تمتلك ثِقلًا سياسيًا وموقعًا استراتيجيًا كمصر. ولهذا، لم تأتِ هذه القمة الأولى لتناقش ملفات تقليدية فحسب، بل لتؤسس لعلاقة متكاملة تتجاوز الاقتصاد إلى الأمن والطاقة والسياسة الإقليمية.
لقد أدرك الطرفان أن المصالح المشتركة بينهما لم تعد تقتصر على الدعم أو المساعدات، بل تقوم على التكامل. أوروبا تبحث عن تأمين مواردها وسلاسل التوريد، وعن شريك موثوق في التحول الأخضر والهيدروجين والطاقة المتجددة، بينما تحتاج مصر إلى شراكة استثمارية تتيح نقل التكنولوجيا وتوطين الصناعة وتفتح آفاقًا جديدة للتنمية. وفي هذا التوازن بين الحاجة والمصلحة، تنشأ معادلة جديدة للعلاقات تقوم على الندية والتكامل لا التبعية.
القمة لم تكن مجرد حوارات في قاعات مغلقة، بل كانت ورشة فكرية واقتصادية مفتوحة شهدت حضورًا واسعًا لرجال الأعمال والشركات الأوروبية الكبرى، حيث بدا واضحًا أن هناك رغبة أوروبية حقيقية في التواجد داخل السوق المصرية، لا سيما بعد أن أصبحت مصر بوابة طبيعية إلى القارة الإفريقية ومركزًا لوجستيًا للطاقة والعبور التجاري.
أما في الجانب السياسي، فقد فرضت التطورات الجيوسياسية في الشرق الأوسط نفسها بقوة. فالنزاع المتصاعد في غزة جعل من مصر اللاعب الإقليمي الأكثر قدرة على الوساطة واحتواء الأزمات، وهو ما جعل صوت القاهرة حاضرًا في كل نقاش يتعلق بأمن واستقرار المنطقة. وفي المقابل، وجدت أوروبا نفسها أمام واقع لا يمكن تجاهله: أن أمنها يبدأ من الجنوب، وأن مصر تمثل حجر الزاوية في هذا الأمن.
من زاوية أخرى، تتعامل أوروبا اليوم مع ضغوط داخلية متزايدة بسبب ملف الهجرة غير النظامية، ما يجعل التعاون مع مصر في هذا المجال ضرورة استراتيجية، لا خيارًا دبلوماسيًا. فالقاهرة تمتلك تجربة ناجحة في إدارة هذا الملف، قائمة على التنمية والاحتواء بدلًا من الحواجز والموانع.
وتتضاعف أهمية هذا التحالف في ظل التنافس الدولي بين القوى الكبرى — الولايات المتحدة والصين وروسيا — إذ تبحث أوروبا عن شركاء إقليميين يعززون استقلال قرارها الاقتصادي والسياسي. ومصر، بما تملكه من موقع جغرافي فريد وإرادة سياسية واضحة، تبرز اليوم كأحد أهم هؤلاء الشركاء.
إن ما يميز هذه القمة عن سابقاتها هو أنها تمثل انتقالًا من مرحلة الاتفاقيات الجزئية إلى الشراكة الشاملة، ومن لغة المنح إلى منطق الاستثمار المتبادل. إنها خطوة تُعيد تعريف العلاقة بين الجنوب والشمال، وتمنح مصر مساحة أكبر للتأثير في محيطها الإقليمي والدولي.
ومع كل ذلك، تظل مسؤولية الجانب المصري كبيرة. فالشراكة الحقيقية لا تُبنى فقط على التفاهمات السياسية، بل تحتاج إلى بيئة اقتصادية جاذبة، وإصلاحات تُعزز من ثقة المستثمر الأوروبي، ورؤية واضحة لتوطين التكنولوجيا وتعظيم الإنتاج المحلي.
القمة الأولى بين مصر والاتحاد الأوروبي ليست مجرد لقاء، بل بداية طريق نحو علاقة متوازنة تصنع مستقبلًا مختلفًا للضفتين. فحين تلتقي الإرادة المصرية بالاحتياج الأوروبي، يصبح من الممكن أن تتحول الشراكة إلى نموذج جديد في العلاقات الدولية... نموذج قوامه المصالح المشتركة، والاحترام المتبادل، والتنمية المستدامة.





















