الكاتب الصحفى صالح شلبى يكتب :الاستقالات الحزبية تكشف الواقع المر

تشهد الساحة السياسية المصرية هذه الأيام حالة غير مسبوقة من الغليان داخل عدد من الأحزاب الكبرى، بعد أن تفجّرت موجة استقالات كشفت حجم التآكل الذي أصاب البنية الحزبية في مصر.
ورغم محاولات البعض التقليل من حجم الأزمة، واعتبارها “استقالات فردية” كما قال السيد القصير أمين عام حزب الجبهة الوطنية ووزير الزراعة السابق، فإن الواقع على الأرض يقول بوضوح ما يحدث ليس خلافًا عابرًا، بل زلزال سياسي صامت يضرب جسد الحياة الحزبية من الداخل.
الوقائع تؤكد أن أحزابًا كبرى مثل الجبهة الوطنية ومستقبل وطن وغيرها من الاحزاب ، شهدت موجات استقالات جماعية في عدد من الدوائر، والسبب واضح وصريح تهميش الكفاءات المحلية، وفرض مرشحين “بالباراشوت” من خارج المحافظات، وكأن أبناء هذه الدوائر غير مؤهلين أو لا يستحقون الثقة، الكوادر التي بنت هذه الأحزاب بالجهد والعرق تم استبعادها لصالح الوافدين الجدد الذين لا يعرفهم أحد سوى من رشّحهم أو دعمهم ماليًا أو سياسيًا.
الأدهى والأخطر أن الحديث عن المال السياسي لم يعد سرًا ولا تلميحًا، الكواليس تعج بقصص عن مبالغ خرافية تُدفَع مقابل الترشح على قوائم الحزب، وعن مقاعد تُمنح لمن يملك لا لمن يستحق.
لقد صار الشارع المصري يعبّرعن هذه الحالة بتهكم لاذع وسخرية مريرة، مستلهمًا كلمات أغنية "معاك فلوس" التي انتشرت مؤخرًا، وباتت تختصر الواقع السياسي في جملة واحدة- " معاك فلوس حتحضن وتبوس!"، ماعندك فلوس تمشي وتحوس
تلك الأغنية التي وُلدت كعمل فني ساخر أصبحت – من حيث لا يقصد صُنّاعها – شعار مرحلة حزبية مأزومة، حيث تُقاس الفرص بالمحافظ، لا بالمواقف، وتُوزَّع الترشيحات بالشيك لا بالسيرة.
التصريحات الرسمية التي تصف ما يجري بأنه “حالات فردية” أو" اختلافات بسيطة "، لم تعد تقنع أحدًا،فالأعضاء المستقيلون لا يتركون مقاعدهم لمجرد نزوة أو خصومة، بل نتيجة شعور حقيقي بالظلم، ورفض لمنظومة مغلقة تحكمها المصالح والمجاملات.
لقد تحولت بعض الأحزاب إلى كيانات تبحث عن الوجاهة لا الإصلاح، وعن السيطرة لا الخدمة العامة، حتى أصبح الانتماء الحزبي بالنسبة للبعض وسيلة للوصول لا وسيلة للتعبير.
ما يجري الآن هو نتيجة طبيعية لإدارة حزبية فقدت البوصلة، فلا رؤية سياسية واضحة، ولا برامج واقعية، ولا آلية شفافة للاختيار- فقط دوائر مغلقة من المنتفعين يتبادلون المناصب والفرص، بينما تُقصى الكفاءات وتُهمَّش الطاقات الشبابية.
لقد تم استبدال الكفاءة بالولاء، والمبدأ بالصفقة، والعمل الحزبي بالسمسرة. ومع استمرار هذا النهج، فلن يبقى من الأحزاب سوى أسماء لافتات وشعارات جوفاء لا تملك من مضمون السياسة شيئًا.
الاستقالات الأخيرة ليست “حدثًا عابراً كما يحاول البعض أن يصوّرها، بل هي صرخة احتجاج وطنية من داخل البيت الحزبي نفسه،هي جرس إنذار يقول بوضوح
“إن لم تُصلحوا بيوتكم الداخلية، فستنهار على رؤوسكم جميعًا.”
إن مصر لا تحتاج إلى أحزاب تُدار بالباراشوت أو تُموّل بالشيكات، بل إلى كيانات حقيقية تؤمن بالكفاءة والشفافية والانتماء، العمل السياسي ليس بازارًا للترضيات ولا سوقًا للمناصب، بل مسؤولية وطنية وشرف لا يُشترى بالمال.
لقد قالها الشارع صراحة، مختصرًا المشهد كله في جملة واحدة من أغنية شعبية أصبحت مرآة للواقع، " معاك فلوس حتحضن وتبوس، ماعندك فلوس تمشي وتحوس!" ،فهل يسمع قادة الأحزاب هذا اللحن المؤلم قبل أن تُطوى صفحة الحياة الحزبية في مصر نهائيًا؟