الدكتورة شاهيناز عبد الكريم تكتب: أدونيس: نار لا تنطفئ

حين يتجاوز الشعر حدود البلاغة، ويصبح فعلًا كونيًا يعيد ترتيب العلاقة بين الإنسان واللغة، يظهر اسم أدونيس كواحد من أعظم من لمسوا جوهر الحرف، وأعادوا له روحه.
أدونيس ليس مجرد شاعر. إنه مشروع ثقافي وفكري كامل، أعاد تعريف اللغة العربية من جذورها، لا بوصفها أداة، بل ككائن حيّ، يتنفس المعنى، ويتمدد في الوعي، ويولد الأسئلة بدل أن يقدّم الإجابات.
"الحرف عندي ليس مجرد علامة، بل هو عالم ينبض بالمعنى، ويمتد إلى الوعي ككل." — أدونيس
منذ بداياته، لم يكن أدونيس يكتب ليحاكي التقاليد، بل ليصدمها، ويكسرها، ويقترح بدائلها. لم تكن القصيدة عنده زخرفًا لغويًا، بل صراعًا داخليًا، رحلة نحو الذات، وتمرّدًا على الثبات. عبر لغته المكثفة، وصوره الغرائبية، ورؤاه الفلسفية، حوّل القصيدة العربية إلى فضاء مفتوح للتأمل والتجريب والدهشة.
في إحدى قصائده يقول:
"أُعلّم قلبي أن يمشي على البحر،
أن ينام على الريح،
أن يُصغي إلى الحجر حين يتكلم،
وأن يرى الله في كل شيءٍ يُضيء ويغيب."
هنا لا نجد شاعرًا فقط، بل صوفيًّا حديثًا، يرى العالم بعين الروح، ويصوغ اللغة كما لو كانت دعاءً غير معلن، أو محاولة للإمساك بما لا يُقال.
ما فعله أدونيس باللغة لا يُقاس بميزان الأوزان والقوافي، بل بثقله في إعادة الاعتبار للغة كأداة تفكير. لقد وسّع أفق الشعر العربي ليشمل الفلسفة، والمجاز، والوجود، والحرية، فصار شعره مرآة لتحوّلات الذات والكون.
ومع كل هذا العطاء، لم ينل نوبل. رُشّح كثيرًا، لكنه لم يُتوّج. لكن الحقيقة أن هذا لم يخصم من قيمته شيئًا، بل كشف عن ضيق أفق الجوائز أمام المبدعين الذين لا يكتبون على مقاسات لجان التحكيم. وعلى الرغم من ذلك، نال جائزة "غوته" الألمانية عام 2011، تكريمًا لمسيرته الثرية.
إن أهمية أدونيس لا تتوقف عند حدود القصيدة، بل تمتد إلى مساهماته الفكرية في نقد التراث، وتفكيك البنية الفكرية للثقافة العربية، وفتح باب السؤال على مصراعيه: من نحن؟ وما الذي يمكن أن نكونه؟ وهل يمكن أن تتحرر اللغة لتصبح صوتًا إنسانيًا كونيًا؟
لقد أعاد أدونيس للعربية مكانتها كوسيلة تفكير، وكرّس الشعر العربي كجسر بين الحلم والحقيقة، بين الذات والعالم. وما فعله بالحرف العربي هو أشبه بإعادة خلق، لا كتابة فقط.
في زمن يتهدد فيه اللسان العربي بالتهميش، يجيء أدونيس كصوت يقاوم النسيان، وككلمة تتجدّد، لا تنكسر. وكأن مشروعه الشعري بأكمله يقول: إن لم نُجدّد اللغة، فسنفقد الطريق إلى أنفسنا.
أدونيس لا يشيخ. لأنه لا ينتمي إلى زمنٍ واحد. بل هو صوتٌ ممتد، ينادي من عمق الحرف، ويشعل في اللغة نارًا لا تنطفئ.