بوابة الدولة
بوابة الدولة الاخبارية

سامح لاشين يكتب هل أضاع السادات نصراً ساحقاً.. وأفلتت إسرائيل من هزيمة نكراء؟

الكاتب الصحفى سامح لاشين
-

تتجدد ذكرى أهم الأيام المجيدة في تاريخ هذا الشعب، بل في تاريخ الأمة العربية كلها، فحرب أكتوبر تبقى حتى اليوم النصر العربي الحقيقي الوحيد على إسرائيل.

ومع تجدد هذه الذكرى تظل أسئلة كثيرة عالقة، وإجاباتها متباينة، وأحياناً يصبغها الانحياز والحب والكراهية.

لكن ما لا خلاف عليه أن الأيام الأولى من الحرب كانت أيام مجد لا جدال حولها؛ إذ حققت القوات المصرية انتصاراً ساحقاً كسرت فيه غطرسة إسرائيل بكل معانيها. غير أن الحرب التي بدأت في 6 أكتوبر وتوقفت في 22 أكتوبر لم تسر على وتيرة واحدة، إذ تخللتها قرارات مثيرة للجدل: قرار الوقفة التعبوية، ثم قرار تطوير الهجوم يوم 14 أكتوبر، ثم أخطر المنعطفات بحدوث ثغرة الدفرسوار، فضلاً عن خطاب السادات إلى كيسنجر الذي أكد فيه أنه لا نية لتطوير الهجوم وتعميقه.

أولاً: قامت خطة أكتوبر على الإمكانيات المتاحة للجيش المصري، خصوصاً السلاح السوفيتي ذي الطابع الدفاعي، وكانت ترتكز أساساً على مظلة الدفاع الجوي التي تحمي القوات حتى عمق 12 كيلومتراً شرق القناة.
لذلك لم تكن المعركة تحريرية شاملة بقدر ما كانت تحريكية لكسر جمود الموقف السياسي والعسكري المفروض بعد حرب الاستنزاف في ظل الوفاق الأمريكي-السوفيتي.

ثانياً: بدأت الوقفة التعبوية مع 9 أكتوبر، أي التوقف عن التقدم السريع بعد العبور وتحقيق مفاجأة كبرى ، وهو ما اعتبره البعض تراجعاً عن استثمار نشوة النصر الساحق.
لكن الحقيقة ووفقا للرؤية التكتيكية أن ما جرى كان تعزيزاً للتواجد في المناطق المحررة أي ما يسمى (بالتمدد الرأسي) أكثر منه اندفاعاً نحو العمق اي ما يسمى (بالتمدد الأفقي )، في كل الأحوال لم تكن الوقفة التعبوية سببا في تحولات مسار الحرب .

ثالثاً:في 13 أكتوبر دخلت الولايات المتحدة الحرب فعلياً من خلال إقامة جسر جوي ضخم نقل آلاف الأطنان من السلاح والمعدات إلى إسرائيل لتعويض خسائرها الفادحة في الأيام الأولى ، وكان الهدف الأمريكي الرئيسي هو إيقاف استمرار الانتصار المصري بأي شكل وإنقاذ إسرائيل من هزيمة محققة.

رابعاً: قرار تطوير الهجوم هو الأكثر تأثيراً على سير المعركة، فالتطوير نحو المضائق في عمق سيناء كان يعني خروج القوات المصرية من مظلة الدفاع الجوي، وهو ما حذّر منه رئيس الأركان الفريق سعد الدين الشاذلي.
و بررت القيادة السياسية القرار برغبتها في تخفيف الضغط على الجبهة السورية، لكن البعض شكك في هذا التبرير ورأوا أن الدافع الحقيقي لم يُعلن ولم يقدموا اي رواية بديلة للأسباب .

أما على الجبهة السورية فكانت بالفعل في خطر كبير وارتداد رهيب، فبعد الانتصارات في الأيام الثلاثة الأولى فقد السوريون معظم مكاسبهم وتعرضوا لتوغل خطير داخل أراضيهم، مما دفع العراق والأردن لإرسال قوات مدرعة لإسنادهم.

خامساً: في 14 أكتوبر خاض الجيش المصري أكبر معركة دبابات في الشرق الأوسط منذ الحرب العالمية الثانية.
خسر المصريون في هذه المعركة ما بين 200 و250 دبابة، بينما خسر العدو نحو 40–60 دبابة، ويجب ألا ننسى أن وراء إسرائيل كان يقف الجسر الجوي الأمريكي الضخم، في حين كان الجسر الجوي السوفيتي لمصر وسوريا أقل بكثير من حيث الكفاءة والتوقيت.
وقد قال السادات: “لو أن السوفيت مدّونا بمائة دبابة فقط لغيّرت بها وجه التاريخ.”

كان الدعم السوفيتي غير مباشر؛ فإلى سوريا عبر العراق، وإلى مصر عبر الجزائر، ومن أهم الملاحظات على هذا الجسر وصول أصناف من السلاح لم يكن الجيش المصري والسوري في حاجة إليها ، في الوقت الذي كان الجيشان فيه يعانيان نقصا بالغا في أصناف أخرى ، بالإضافة لإرسال ٤٠٠ دبابة من طراز ٦٢ وت ٥٥ معظمها كان مجهزا بأجهزة القتال الليلي وهي الأشعة تحت الحمراء والعدسات المكبرة لضوء النجوم جميعها لسوريا نظرا لخسائرها الثقيلة في الدبابات.

سادساً: كانت ثغرة الدفرسوار أخطر مراحل الحرب وأكثرها استغلالاً دعائياً من قِبل إسرائيل لتغطية إخفاقاتها في الأيام الأولى.
قاد الجنرال أريئيل شارون العملية في ليلة 15 – 16 أكتوبر، مستغلاً الفجوة بين الجيشين الثاني والثالث المصريين عند الدفرسوار (شمال الإسماعيلية).
استغل الإسرائيليون انشغال القوات المصرية بمعركة تطوير الهجوم والدبابات الكبرى، فعبروا القناة في تلك المنطقة ونجحوا في إقامة رأس كوبري غرب القناة.

اختارت إسرائيل هذا الاتجاه لقربه من القاهرة ولأغراض دعائية: ليُقال إن قواتها باتت على بعد 100 كم فقط من العاصمة المصرية.

هنا ظهر الخلاف الثاني الكبير بين قادة الحرب:
فبعد الخلاف حول تطوير الهجوم، ثار خلاف حول طريقة معالجة الثغرة.
كان الفريق الشاذلي يرى ضرورة سحب جزء من القوات المدرعة من الشرق وإعادة دفعها غرباً لسحق رأس الكوبري الإسرائيلي وهو ما كان عملياً من وجهة نظره، بينما رفض السادات هذا الخيار قاطعاً، خشية أن يؤدي الانسحاب إلى فقدان رؤوس الكباري شرق القناة ويحقق الهدف الإسرائيلي بالعودة لاحتلال الضفة الشرقية.
و توسعت الثغرة تدريجياً؛ فبينما بدأ شارون بقرابة ٤٠ دبابة، بلغ عدد القوات الإسرائيلية غرب القناة وقت وقف إطلاق النار في ٢٣ أكتوبر نحو ٥٠٠ دبابة مع ١٢ الف جندي .

حاولت هذه القوات التقدم شمالاً نحو الإسماعيلية وجنوباً نحو السويس لتطويق الجيش الثالث وقطع طرق إمداده.
و دارت معارك حاسمة:
• معركة الإسماعيلية (22–23 أكتوبر) حيث تصدت قوات الصاعقة والمظلات المصرية للهجوم الإسرائيلي وأجبرته على التراجع.
• معركة السويس (24 أكتوبر) حيث تصدى أهالي المدينة والجيش لهجوم مدرع إسرائيلي وألحقوا به خسائر فادحة وأجبروه على الانسحاب.

رغم حصار الجيش الثالث ميدانياً، فإن القوات الإسرائيلية نفسها باتت في وضع هش غرب القناة، محصورة بين الجيشين المصريين وتعتمد على جسر واحد في الدفرسوار.

تدخلت القوى العظمى ، وأصدر مجلس الأمن القرار 338 بوقف إطلاق النار في 22 أكتوبر، لكن إسرائيل استمرت في القتال حتى 24 أكتوبر على أمل تحسين مواقعها، وهو ما تم بتشجيع غير مباشر من كيسنجر الذي أراد موازنة الموقف على الأرض حتى لا تدخل مصر المفاوضات وهي متفوقة ميدانياً.

بدأت بعد ذلك مفاوضات الكيلو 101 بين الجانبين بوساطة أمريكية، وأسفرت عن إدخال إمدادات للجيش الثالث، ثم توقيع اتفاق فض الاشتباك الأول في يناير 1974 الذي انسحبت بموجبه إسرائيل من غرب القناة وعادت إلى شرقها، لتنتهي بذلك أزمة الثغرة.

سابعاً: كعادة إسرائيل، حتى مع وقف إطلاق النار تخرق القرارات الدولية، وكان واضحاً أن واشنطن تريد إضعاف الموقف المصري حتى لا تفرض القاهرة شروطها في المفاوضات.

و ينقل أنيس منصور في كتابه من أوراق السادات عن الرئيس قوله:

“ضربنا 400 دبابة في الأيام الأربعة الأولى للقتال ودخلنا كبرى معارك الدبابات في التاريخ وانكسر فيها اليهود تماماً، وفجأة وجدت أمامي 10 ألوية مدرعة، أي 1200 دبابة، واردة من الولايات المتحدة الأمريكية.
ومعنى ذلك أن أمريكا وليست إسرائيل قد نزلت بثقلها لتحاربني… لا أبحث عن البطولات الكاذبة ولا عن عنتريات على حساب الشعب وأرواح جنودنا الشرفاء.”

و من الطبيعي أن تحدث أخطاء في التقدير من أعظم القادة، وعلينا أن ندرك الفارق بين من يقاتل في الميدان ومن يحلل بعد انتهاء المعركة ويقف خارج الميدان .
لا توجد حكمة بأثر رجعي، لكن يجب أن نتعلم أن معرفة قدرات العدو لا تعني الاستسلام بل حسن التخطيط ومواجهة الخلل في موازين القوى.

رغم كل محاولات إسرائيل وحلفائها وبعض الأصوات العربية لتشويه الإنجاز العسكري، بقيت حقيقة أن إسرائيل لم تستطع الاحتفاظ بشبر واحد غرب القناة، وأن مسارات التفاوض اللاحقة – رغم جدلها – قامت على مكاسب ميدانية مصرية حقيقية.

ولم يكن في مصلحة السادات أن يضيع النصر ويكرر تجربة الجبهة السورية، بل حرص على الحفاظ على ما تحقق، فجاءت اتفاقيات فض الاشتباك لتثبت هذا المكسب وتعيد القوات الإسرائيلية إلى الخطوط التي أرادتها مصر.
أما إسرائيل ومعها أمريكا، فقد عملتا على ألا يكون النصر المصري ساحقاً حتى لا تدخل مصر المفاوضات في موقع تفوق مطلق.
كاتب المقال الكاتب الصحفى سامح لاشين مدير تحرير جريدة الاهرام