بوابة الدولة
بوابة الدولة الاخبارية

صلاح السعدني.. الباحث عن «الهوية»

صلاح السعدنى
كتبت - ايمان حمدي -

قليلون جدًا ربما لا يتعدى عددهم أصابع اليد الواحدة، هؤلاء الذين فتشوا عن حقائق غائبة في الأوطان، لعلها تاهت وسط صراعات البحث عن المادة ومحاولة مواكبة كل ما هو يتواكب مع عولمة المشهد.. وربما كان النجم الكبير صلاح السعدني واحدًا من هؤلاء الذين حاولوا البقاء والحفاظ والتمسك بكل ما هو أصيل.

انشغل النجم الكبير بقضية تاهت في المشهد الدرامي "الهوية"، والعودة إلى الجذور وظهر ذلك في أغلب أعماله التي قدمها بالدراما التلفزيونية، مما جعله دائمًا في صدارة المشهد بين نجوم الشاشة الصغيرة يحاول مقاومة تيارات غسل الأدمغة التي كانت تدخل بشكل مستتر في الأعمال الدرامية واحدًا تلو الآخر إلى أن سيطرت بقوة مع سنوات الألفية الجديدة لكن بقي النجم الكبير مفتشًا وباحثًا عنها

أسامة أنور عكاشة

على مدار التجربة التلفزيونية الطويلة للعمدة صلاح السعدني، وجد الكاتب الراحل أسامة أنور عكاشة ضالته فيه ليكون هو بطل النسب الأكبر من أعماله التي طالت تفتش وتبحث عن الهوية فقليلًا ما يجد الكتاب نجومًا يحملون نفس الهموم وينشغلون بنفس الأفكار التي تداعب أقلامهم بين الحين والآخر، وبدأت التجربة مع الملحمة الشهيرة "ليالي الحلمية" هذا المشروع التأريخي والتوثيقي الذي رصد مراحل وأزمنة مختلفة بالدولة المصرية، كانت فيه قراءات الكاتب الراحل للتاريخ السياسي والاجتماعي بناءً ومرجعية يستدل بها في كثير من الأحداث.

كانت شخصية "العمدة" سليمان غانم التي قدمها النجم الكبير صلاح السعدني هي أصل هذه الملحمة، "العمدة – هو الأرض والجذر" هو الهوية الذي كانت الباشوية الممثلة في سليم البدري تحاول طمثها، صراع طبقي واجتماعي وقبل ذلك فكري كان الأساس في تغير كثير من المشاهد خلال تلك الحقب الزمنية وفيما بعدها بسنوات تالية.

وفي إطار البحث الدائم عن الهوية يخوض "العمدتان – الكتابة والتمثيل" أسامة أنور عكاشة وصلاح السعدني يقدم الثنائي معًا موضوعًا آخر عن الهوية، "أرابيسك" هذا المشروع الدرامي الذي يبدو وكأنه عمل يناقش حرفة طالها الانقراض وكأن الثنائي كان يدق جرس إنذارها يشير لذلك بعد سنوات تالية قدم بها المسلسل الذي عرض منتصف التسعينيات من القرن المنصرم، لكن الحقيقة أن مسلسل "أرابيسك" تجربة تبحث في أصالة الفن والتاريخ، ويظهر ذلك في الرمزية المتمثّلة في "الكرسي الأثري" الذي صنعه جده "حسن النعماني" والذي تم الاستيلاء عليه من ناهبي الحضارة والآثار ويقوم "حسن" باستعادته، وبالتوازي تظهر هوية شخصية "صانع الأرابيسك" الذي رغم إهماله في حياته وعمله بعد تجربة زواج فاشلة يظل محتفظًا بمقومات وصفات "ابن البلد" ابن الأصول الجدع الذي لا يتخلى عن أحد ولا يتأخر عن مساعدته.

هذان الخطان الدراميان فقط وسط كثير من الخطوط المتشابكة في مسلسل "أرابيسك" كان كل مشهد بها لبطله يؤكد على مفهوم "الهوية".

"حلم الجنوبي"

يعود النجم الكبير بمشروع آخر يفتش في التاريخ الذي قدمه مع الكاتب الراحل محمد صفاء عامر، وشخصية مدرس التاريخ الذي ينشغل باكتشاف آثري لمكان مقبرة الإسكندر الأكبر ويدخل في صراع مع تاجر الآثار "عمران الجارحي" الذي لعب شخصيته الراحل حسن حسني، تلك الصراع الدائر منذ سنوات وعبر حقب زمنية مختلفة بين أهل الجنوب الذين يقدرون قيمة كل ما هو قادم من صناعة التاريخ لأنهم بالأساس بناة الحضارة التي لازال العالم يحتفي بها، وبين هؤلاء الذين ينهبون الآثار والتاريخ مقابل حفنة من الأموال.

"الأصدقاء"

تجربة أخرى شديدة الأهمية قدمها الفنان صلاح السعدني في رحلته التلفزيونية من خلال مسلسل "الأصدقاء" وشخصية عالم الذرة "عزيز" الذي يدفع ثمن حياته فداءً للوطن بعد قتله من جهات أجنبية للاستيلاء على أبحاث في مجال الذرة، قضية أخرى قليلًا من الأعمال الدرامية التي تناولتها وبحثت فيها فيما يتعرض له العلماء المصريون من حروب ومطاردات من كيانات خارجية تريد السيطرة على العالم وسرقة مجهود العلماء المصريين في محاولة لطمث الهوية بمفهوم آخر.

"رجل من زمن العولمة"

مفهوم جديد لفكرة الصدام بين الأجيال قدمها النجم صلاح السعدني في مسلسل "رجل من زمن العولمة" من خلال مناقشة قضايا معاصرة في الأسرة المصرية، وربما كان هذا العمل من الأعمال الدرامية النادرة التي ناقشت أفكار الأعمار التي تنتمي لفئة المراهقين، سواء تلك التي كان يناقشها بطل العمل الذي لعب دور "معلم" مع تلاميذه أو على الجانب الآخر مع أبنائه، وفي هذا العمل الذي لربما لم يأخذ حقه في القاء الضوء عليه، نقطة مفصلية تتعلق بفكرة "الحوار" مع الآخر، من خلال علاقة المعلم مع تلاميذه وأبناؤه وكأنه السعدني كان يقرأ المشهد مبكرًا، فجزء من فقد هويتنا الحالية يتعلق بفقد لغة الحوار بين الأجيال مما جعل نسب كبيرة من الأجيال الجديدة لا تعرف قيمة الأرض والوطن والجذور وسط سيطرة التكنولوجيا الحديثة عليهم وفقد لغة الحوار بين الآجيال.

هناك العديد من الأعمال التي قدمها النجم الكبير على مدار تجربته الفنية بحث فيها عن الهوية لا تساع هذه السطور القليلة لمناقشتها، فقد تبدو أعمالًا عادية لمن لا يقرأ ما بين سطورها لكنها بالأساس تحمل رمزيات كبيرة في أغلب مشاهدها.

لكن لماذا بقي "العمدة صلاح السعدني" باحثًا عن مفهوم الهوية؟

يظل صلاح السعدني واحدًا من الجيل الذي حمل وعيًا فكريًا وثقافة كبيرة طبقًا للمرحلة التي عاش فيها مجالسًا لمقاهي المثقفين في ستينات القرن المنصرم؛ مما سمح له بالتعرف على العديد من الأدباء والمثقفين بخلاف أن شقيقه هو الكاتب المخضرم محمود السعدني بجانب حبه للقراءة والإطلاع الدائم حتى هذه اللحظة، لذلك بات النجم مُنشغلاً بقضايا وهمومه مجتمعه، وعزف بأوتار موهبته على نغمات الهوية وحب الوطن والانتماء.

يعتبر صلاح السعدني واحدًا من النجوم الذين أخلصوا لفنهم ولتجريتهم الفنية، عمل بالفن بصدق لأنه يحب ويرى أنه به رسالة لابد أن يحملها للمجتمع من خلال فنه، لهذا كان أداؤه صادقًا وسلسًا طول الوقت يتغير ويتجدد بحسب طبيعة الشخصية.

تجربة صلاح السعدني الفنية بالدراما التلفزيونية لا يوجد وصف دقيق لها إلا بكونها "هامة وثرية" ولا توجد كلمات تلخص تربع النجم لعقود بها إلا كلمة واحدة هي "رجل المرحلة" الذي حافظ على هوية الشخصية المصرية.