بوابة الدولة
بوابة الدولة الاخبارية

الكاتب الصحفى طه خليفة يكتب.. من المَدْرسة الأصيلة .. إلى المَدْرسة البديلة !

الكاتب الصحفى طه خليفة
-

في آفة الدروس الخصوصية التي بدأنا الحديث عنها في مقال سابق بعنوان: (مُدّرِسة الأحياء.. والبودي جارد، والطلبة، والمسرح)، نتحدث اليوم عن المَدْرَسة الأصيلة، و نوع آخر من المدارس بلورته في مصطلح؛ المَدْرَسة المساندة، والمَدْرَسة البديلة.
وعندما نقرأ كلمة المَدْرَسة، فإن الذهن يعتبرها فوراً، المدرسة التاريخية المعروفة، التي نتلقى فيها دروسنا وتعليمنا وإعدادنا التربوي والمنهجي والثقافي والفكري، والتي تضعنا على طريق العلم، وتنقذنا من طريق الجهل.
وهذا النوع من المدارس، هو الكيان الرسمي التابع للدولة، ومعها المدارس الخاصة التي تُشرف عليها الدولة، والمدارس الأجنبية الدولية، وقد تكون هناك مدارس جاليات، كما في بلدان الخليج، لتقديم نفس التعليم الذي يتم تدريسه في البلد الأم لأبناء كل جالية، وهناك مدارس من هذا النوع للجاليات المصرية في بلدان الخليج.
والمقصود مجازاً بالمدرسة المساندة، والمدرسة البديلة، في هذا المقال، هو التعبير عن منظومة أو كيان الدروس الخصوصية.
بالطبع هناك اختلافات أساسية بين المدرسة الرسمية الأصيلة، وبين المدرسة الأخرى غير الرسمية؛ المساندة والبديلة، أو (كيان الدروس الخصوصية)، لكن الوصف والقياس هنا مرتبط فقط بجوهر العملية التي تتم في كلا النوعين من المدارس، وهو التعليم والتدريس والشرح، وتبسيط المناهج، وتوصيل كل ذلك لعقول وأفهام الطلبة، بغية التكوين العلمي، والنجاح في الاختبارات، والانتقال من مرحلة تعليمية إلى أخرى، لنيل شهادة متوسطة، أو عليا، في أحد فروع العلم والمعرفة.
بعد هذا التوضيح، نقول إن الدروس الخصوصية بدأت في مصر، لتكون عاملاً أهلياً مسانداً أو داعماً أو معززاً للمدرسة الأصيلة التي تتولى الدولة المسؤولية الكاملة عنها، عبر وزارة التربية والتعليم، مع الأنواع الأخرى من المدارس (خاصة، أجنبية، جاليات).
ونشوء أي ظاهرة، يعني أن هناك حاجة مجتمعية استدعت ظهورها، وعندما تنتفي هذه الحاجة، فإن الظاهرة تختفي تدريجياً حتى تنتهي تماماً، وبهذا التكييف فإن الدرس الخاص خارج المدرسة ظهرت له حاجة وضرورة، والمؤكد أنه بدأ فردياً وبسيطاً، ثم أخذ يكبر ويتسع، ويتزايد أعداد الطلبة الراغبين فيه، حتى وصلنا اليوم إلى أن الحصول على درس خاص في مادة، أو كل المواد الدراسية، صار أساساً يصعب الاستغناء عنه.
إذاً، الدروس الخصوصية بدأت كنوع من التدريس الإضافي المساند والداعم والمُعزز للتعليم في مدارسه المعروفة والمعترف بها، وتطورت حتى تجذرت وتغولت وتوحشت، وفي تقديري أنها أصبحت المدرسة البديلة عن المدرسة الأصيلة التي هجرها الطلاب، وتحولت إلى مبان فارغة، وفصولها خاوية على عروشها، ولا يتواجد فيها غير الهيئة التدريسية والإدارية.
ومن المحزن أن نقول إن المدارس الأصيلة، موطن العلم، ومعقل التنشئة للأجيال، صارت مهجورة من طلابها، والمدارس البديلة غير الرسمية، والخارجة عن الشرعية التربوية والتعليمية، وهى مراكز الدروس الخصوصية بمختلف أشكالها، باتت تعج بالطلاب والمدرسين، وتمارس العملية التعليمية كأنها مدارس كاملة.
ومن المؤلم أن الدرس الخاص انتقل من كونه طلب مساعدة في مادة ما، لقصور عند طالب ما، في استيعاب هذه المادة بشكل جيد في الفصل المدرسي، أو لرغبة منه في الاستزادة من الشرح في نطاق ضيق ومحدود له بمفرده، أو معه عدد قليل من زملاءه، إلى أن يكون فصلاً كاملاً يضم عشرات الطلاب، بل ويأخذ معه آفة من الفصل الرسمي، وهو الاكتظاظ بالطلاب، حينما كان هناك فصول وطلاب.
في المدرسة الرسمية، عندما كانت عامرة بالطلبة، كان الفصل مزدحماً بعدد أكبر من طاقته بالطلاب، وقد انتقل هذا المشهد إلى المدرسة البديلة، حيث الطلاب الذين يتلقون الدرس الخاص عددهم يفوق طاقة الغرف التي يجلسون فيها.
وهذا تفسير لكون مُدّرِسة الأحياء استأجرت مسرحاً للطلاب لأن عددهم كبير، ولا مكان لديها لاستيعاب 300 طالب دفعة واحدة، وقد وجدت أن هذا الأمر معروف ويتم منذ سنوات، وهو استئجار أماكن واسعة، ومنها مسارح، لتقديم دروس خاصة للطلبة، أو المراجعات النهائية قبل الامتحانات.
الدروس الخصوصية موجودة منذ عقود طويلة، لكنها كانت عفيفة ومتعففة، ثم بدأت تنزع غطاء العفاف عنها مع إمتلاء جيوب المدرسين بالمال المغري الذي وجدوه وفيراً وأن راتبهم الشهري لا يبلغ واحداً على عشرة من دخولهم من الدروس، ثم في مرحلة تالية تحولت إلى إجبار، واليوم لم يعد هناك عفاف، ولا إجبار بالعصا وأعمال السنة، إنما خضوع واستسلام وتسليم من الأسر والطلاب بهذا الواقع، وتدبير نفقات يومية وشهرية لها، وهى بند يفوق بند الإنفاق على الصحة والعلاج، ويفوق بند الملابس والكساء، وربما بند الطعام قبل موجات الغلاء الرهيبة الأخيرة.
عاصرت الدروس الخصوصية بالرضا، كان الاشتراك فيها من عدمه وفق رغبة الطالب وأهله، ثم عاصرتها ببعض الترهيب، لكن لدى أعداد قليلة من المدرسين، ومنذ سنوات وجدت الأولاد يتعاملون معها باعتبارها أمراً روتينياً عادياً جداً، ويقومون مع زملائهم بترتيب اشتراكاتهم مع المدرسين في جميع المواد قبل بدء العام الدراسي الرسمي الشكلي.
عامهم الدراسي الحقيقي في المدارس البديلة يبدأ مطلع أغسطس من كل عام، وليس في أذهان الطلبة أي اهتمام بموعد العام الدراسي الرسمي، ولا يذهبون للمدارس إلا ربما أيام متفرقات، للإلتقاء ببعضهم بعضاً، أو استعراض الملابس التي في خزاناتهم مثلاً.
كيف وصلت الجريمة إلى هذا الحد؟!.
نعم، هى جريمة تعيش معنا وبيننا، ومتفق عليها بين أطرافها، كما ذكرت في المقال السابق، فالعائلة توافق مضطرة على تلقي أولادها الدروس الخصوصية، والأولاد مهيأون لهذا الشكل من الدراسة الذي أصبح الأصل عندهم في تحصيل علومهم، والمدرسون يعتبرون أن المراكز التعليمية الخاصة مكان عملهم الحقيقي اليوم، ومعهم منظمين وإداريين وخدمات لوجستية للمراكز التي صارت كياناً أو دولة خاصة؛ دولة المدارس البديلة، وهى مدارس التعليم الفعلي حالياً.
وضمن الأطراف المتوافقة على استمرار هذه الحالة غير المرضية، وزارة التربية والتعليم، إذ أن إخفاقها في القيام بدورها التربوي والتعليمي، وفشلها في إيقاف هجر الطلاب للمدارس، وعدم قدرتها على إعادة الطلاب لفصولهم الرسمية، إقرار منها بالعجز عن مواجهة المدرسة البديلة التي يتواجد فيها طلاب الوزارة، ومدرسي الوزارة، ولم يبق غير أن تقر الوزارة صراحة أن التعليم صار هناك في هذا النوع من المدارس التي تتحدى الدولة والمسؤولين فيها.
وقد لا يتحرك أحد لأن طلاب مصر منظمين فيها، وبدونها قد لا يستطيع الناشئة فك الخط، وقد لا يقدر طلاب الإعدادي على الانتقال للمرحلة الثانوية، وقد يعجز طلاب الثانوي عن الالتحاق بالجامعات.
هذا واقع مُعاش، وهو أليم مؤلم، حزين محزن، واقع يقود إلى وضع كلمة النهاية للمدرسة الأصل، لصالح المدرسة البدل.
الوزير الحالي الذي يحمل مشعل تطوير التعليم، يقوم بالتطوير، لكن بطريقة عكسية، تطويره تسبب في جعل المدارس مهجورة من أصحابها، وهم طلابها.
وتطويره جعل المدارس البديلة عامرة ومزدحمة بالطلاب، وهو، وكل الذين في دائرة المسؤولية، يعرفون ذلك.
نحن مندفعون في اتجاه منزلق خطير للسقوط في حفرة عميقة، لا خروج منها بالنسبة للتعليم، إن لم تكن الأقدام انزلقت بالفعل.
(الحديث موصول)

كاتب المقال الكاتب الصحفى طه خليفة مدير تحرير جريدة الاحرار