بوابة الدولة
بوابة الدولة الاخبارية

الكاتب الصحفى طه خليفة يكتب .. ذكريات في الطريق إلى (الدولة)

الكاتب الصحفى طة خليفة
-

إذا تكرم الأخ والصديق العزيزصالح شلبى بنشر هذا المقال في بوابته الدولة الإخبارية ، فإنه أولاً سيكون مشكوراً، وثانياً، سيكون هذا المقال هو الأول لي على صفحات ( بوابة الدولةالاخبارية )، وقد تأخرت في كتابته، وفي الدفع به إلى الأستاذ صالح شلبى رئيس مجلس إدارة وتحرير البوابة، وزميل جريدة (الأحرار) العريقة في عصرها الذهبي.
التأخير من جانبي، ودون سبب ،أو مبرر للتلكؤ في الكتابة، فقد مر وقت على زيارتي له في مقر (الدولة) بدعوة كريمة منه، وخلال مغادرتي وتوديعه لي طلب مني أن أكتب مقالاً، والفكرة كانت حاضرة في ذهني منذ تلقيت اتصاله ،حيث تصادف أنني ساعتها كنت في بداية شارع (نوبار) من ناحية حي (باب اللوق)، وبعد وصفه مقر (الدولة) لي وجدت أنه مشوار بسيط في هذا الشارع يستغرق عدة دقائق مشياً على الأقدام للوصول إلى مقر جريدته الالكترونية، وأنا محب للمشي، لكن للأسف خشونة الركبة بدأت تتزايد، وضمن أسبابها التقدم في السن والحركة الكثيرة التي ترتبط بالحياة في مصر بسبب طبيعتها وتعقيداتها، وقد مشيت في عامين منذ استقراري في البلاد ما يعادل المشي مدة عشرين عاماً كنت خلالها بالخارج.
وأنا في طريقي إلى (الدولة) سرت في نفس الشارع (نوبار) الذي سبق وكنت اجتازه مراراً خلال النصف الأول من تسعينيات القرن الماضي، ففيه كان يقع مقر جريدة (العربي) لسان حال الحزب العربي الديمقراطي الناصري، ولم يعد لهذا الحزب وجريدته وجود اليوم مثل أحزاب عديدة أساسية قديمة طواها الزمن، أو أضعفتها صراعات أعضائها على القيادة، أو تسببت الأزمات المالية، أو الإفلاس السياسي والفكري في تجميدها.
عملت في (العربي) لأسابيع، وكان يرأس تحريرها الراحل الأستاذ محمود المراغي، ولم استمر طويلاً، رغم أن المراغي استقبلني في البداية على انفراد وطلب مني الانضمام لقسم التحقيقات، وطرح فكرة ودعاني لتنفيذها، المناخ العام في جريدة أسبوعية حزبية ناصرية لم يكن مشجعاً، كانت (الشللية) واضحة، وكل كادر ناصري كان له تابعيه في الصحيفة، وأنا لي استقلاليتي، ولست أيدلوجياً.
ثم عدت إلى نفس الشارع، ونفس الجريدة، بعد فترة، حيث طلب الحزب من الراحل الأستاذ عبدالله إمام إصدار العدد اليومي من (العربي) ورئاسة تحريره، ويظل المراغي على رأس العدد الأسبوعي، وقد دعاني الأخ العزيز الأستاذ مصطفى بكري للانضمام إلى الفريق الذي شكله في قسم الأخبار بالجريدة وقد تولى رئاسته، وكنت مع زملاء آخرين في هذا القسم نعمل مع بكري في جريدة (مصر الفتاة) التي ترأس تحريرها قبل العصف بالجريدة والحزب في مايو 1992 وانتقالهما لقيادة حزبية وتحريرية جديدة لأسباب سياسية صدامية.
ولم يستمر بكري طويلاً في (العربي) اليومي خلال فترة الإعداد لإصداره، ترك الجريدة، وتركناها معه، وأظن أنه كان صعباً عليه ألا يكون رئيساً للتحرير، رئاسة قسم لم تكن ترقى لطموحه.
قبل تجربتي (العربي) الطارئتين بالنسبة لي، كنت أسير في شارع (نوبار) حتى مبنى وزارة الداخلية القديم، كنت مندوباً لصحيفة (مصر الفتاة) بالوزارة وهى صدرت في أكتوبر 1990، الجريدة كانت أسبوعية، ولم يكن للخبر العادي قيمة رئيسية فيها بعكس الصحف اليومية، والأخبار كانت ذات طبيعة ونكهة خاصة تتناسب مع كونها صحيفة حزبية ولها خط سياسي معين، وهكذا عموماً الصحف الأسبوعية تبقى مظلومة خبرياً، واليوم لم يعد الخبر مادة رئيسية في الصحف اليومية فالبوابات والمواقع الإخبارية وقبلها الفضائيات انتزعت لنفسها ميزة نشر الأخبار بسرعة فور حدوثها.
لم أكن أذهب لوزارة الداخلية كثيراً، والأوضاع الأمنية كانت طبيعية آنذاك، وكان دخول الوزارة يسيراً سواء كنت ضيفاً أو صحفياً، فقط يتم تسجيل الإسم في دفتر مع شخص يجلس على مكتب معدني قديم وراء البوابة الحديدية في مدخل المبنى، وأحياناً كان الدخول بدون هذا الإجراء طالما الشخص معروف، لم تكن تشعر بالرهبة، إنما بالاطمئنان كأنك تدخل أي وزارة خدمية مثل الصحة أو التعليم أو الثقافة، لكن العنف والإرهاب والتفجيرات والاغتيالات التي بدأت نذرها في بداية التسعينيات من تيارات دينية وتصاعدت ووصلت الذروة بجريمة معبد الأقصر عام 1997 ضد شخصيات مسؤولة وأمنية وكتاب ومفكرين وصحفيين وسائحين أجانب ساهم في تشديد قبضة الإجراءات الأمنية في الوزارة وحولها والشوارع المؤدية لها، وفي البلد كلها، وهذا طبيعي ومقبول لدرء الخطر ومواجهة المخاطر.
مررت على مبنى الوزارة القديم الفارغ بعد انتقالها لمكان آخر، ووجدت السكون بداخله بعد الحركة والنشاط طوال النهار والليل، كما مررت على ميدان (لاظوغلي)، واسم الميدان يرتبط عند السياسيين والحزبيين والمعارضين والنشطاء والمنخرطين في العمل العام وعناصر التيارات الدينية بمقر أمن الدولة الملاصق لوزارة الداخلية، أو هو جزء منه، وكان يكفي أن تقول في حديثك أو عنوان جريدتك (لاظوغلي) حتى يكون القصد هو أمن الدولة، وهو جهاز أمني مهم تغير اسمه بعد ثورة يناير إلى الأمن الوطني، وطالما أن الأمن متحقق في ظل دولة القانون فإن منظومة الأمن لابد أن تتلقى الدعم الرسمي والشعبي، فالمؤسسات والمرافق العسكرية والأمنية والخدمية هى ملك الشعب، ولهذا مساندتها والحفاظ عليها وحمايتها ضرورة قومية، والمس بها جريمة جنائية وسياسية وأخلاقية.
ذكريات عديدة ترتبط عندي بشارع (نوبار) قفز بعضها للذاكرة خلال الطريق إلى (بوابة الدولة الاخبارية ) وتتركز في النصف الأول من العقد الأخير في القرن الماضي، لكن أكثرها أثراً في النفس وخلوداً في الذاكرة، هو المبنى رقم (5)، بميدان (لاظوغلي)، والمبنى هو عمارة ضمن عدة عمارات متلاصقة وأمامها مساحة فضاء أشبه بحديقة صغيرة، وكانت تقع فيها عيادة أستاذ الكبد المعروف الراحل الدكتور ياسين عبدالغفار، وكان أهم طبيب مصري وعربي في هذا الوقت في أمراض الكبد والجهاز الهضمي، وكان والدي مريضاً، وذهبنا لأكثر من طبيب ومستشفى، وقررنا عرضه على الدكتور ياسين في عيادته، ووفقنا الله في الذهاب إليه دون حجز مسبق فقد حصلنا على توصية من صهره الكاتب الراحل الأستاذ مصطفى نبيل رئيس تحرير كتاب الهلال، وفي عيادته تعاملوا معنا باحترام، ولم يحصلوا على مبلغ الكشف، اعتبرونا تابعين لبيت الدكتور ياسين، أي لنا خصوصية، وشكرناهم، لكن علاجات الكبد لم تكن تطورت كما هى اليوم، حيث زراعة الكبد صارت جراحة أقرب للعادية، والأدوية التي تقضي على فيروس (سي) متوفرة، والدولة أطلقت حملة ناجحة للكشف على مرضى هذا الفيروس وعلاجه مجاناً وتحققت نتائج جيدة للملايين.
وأنا في طريقي للصديق صالح شلبى ذهبت للعمارة لأسأل عن مصير عيادة الدكتور ياسين، وتحدث معي أحد العاملين فيها، وقال إنها أُغلقت، وذكر أن أحد أبنائه قام بتشغيلها لفترة، ثم أغلقها، ترحمنا عليه، وقرأنا الفاتحة على روحه، وروح والدي.
الذكريات لا تموت، وتسجيلها إحياء دائم لها، حتى لو كانت أحداثاً بسيطة في حياة أناس عاديين، هذه الذكريات بعد مرور سنوات وعقود ستكون لها قيمة عظيمة، إذ ستفهم منها الأجيال القادمة كيف كانت الحياة وقت حصول أحداثها، وكيف كان الناس، وكيف كانوا يعيشون، وكيف كانوا يفكرون.
نحن اليوم نقرأ بنهم يوميات عبدالرحمن الجبرتي التي سجلها في كتابه (عجائب الآثار في التراجم والأخبار)، ووصف فيه فترة الحملة الفرنسية على مصر، وهى المرجع الأبرز في معرفة طبيعة الحياة في مصر المحروسة خلال فترة الاحتلال الفرنسي، وماجرى خلال سنوات الحملة الثلاثة، وكفاح الشعب المصري في مواجهتها.
لدينا مشكلة كبرى في التسجيل والتوثيق لليوميات والأحداث من الشخصيات التي تشارك في صنع الحاضر، وممن يلوونهم في الأدوار والمسؤوليات، وحتى من آحاد الناس ممن يمكن أن يكون سردهم مفيداً، فلا أحد يهتم بتسجيل يومياته أو ذكرياته أو سيرته الذاتية، ومن أسف أننا نوالي فقد شخصيات كثيرة مهمة بالرحيل عن الدنيا ولديهم مخزوناً وقصصاً وحكايات كان يجب كتابتها، ولهذا تنشأ وتذهب أجيالاً كاملة دون ذكر أو أثر لها وكأنها لم تكن موجودة من الأصل، كما تضيع الحقائق والمفاصل الرئيسية في حياتنا وأوطاننا لأن صناعها لم يدونوها أو تكاسلوا عن ذلك.
كتابة التاريخ المجرد المنصف الموضوعي النزيه ضرورة وطنية وقومية وإنسانية.
[email protected]