بوابة الدولة
بوابة الدولة الاخبارية

الدكتور أحمد حلقة يكتب.. تأملات صوفية..الرحمة والوعد الإلهِى وعمل العباد

احمد حلقه
احمد حلقه -

خلق اللهُ الإنسانَ ليكون خليفةً له فى أرضه فكان بدء خلقه فى أحسن تقويم مع الملائكة المقربين روحاً مجرداً عن المادة فى عالم الأمر ثم أهبطه فى أسفل سافلين لتحل رُوحه فى جسد من طين وماء فكان ابتلاء الإنسان بالجمع بين عالم النور العلوى وعالم الظلام المادى السفلى، ووجود الروح فى قالب المادة جعلها تنسى ما عهد إليها مولاها " لقد خلقنا الإنسان فى أحسن تقويم. ثم رددناه أسفل سافلين.إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات فلهم أجر غير ممنون "، فبمخالطة الروح لعالم المادة أقبلت الروح على الماديات ونسيت عالمها الأصلى وشغلتها الشهوات وإشباع الغرائز الحيوانية واستغرقت فى الغفلات، ولكى يعيد اللهُ هذه الأرواح أنزل الكتب السماوية وأرسل الرسل لهداية الإنسان وليرشده بصراطه المستقيم فكلّفه بالعمل الرادّ له للإقبال على ربه والإشتغال به ووعده على ذلك بالثواب، والعمل ذاته ليس سبباً موجباً ولكن فقط لوعد الله " وعْد الصدق الذى كانوا يُوعدون " فلم يقل تعالى جزاء الصدق وإنما قال وعد الصدق، وأكّد هذا المعنى بقوله " وقالوا الحمد لله الذى صدقنا وعده "، فلا وصول للسعادة الأخروية بعملٍ إطلاقاً بل برحمة الله، قال صلى الله عليه وسلم "لا يدخل أحد الجنة بعمله، قالوا ولا أنت يا رسول الله ؟ قال ولا أنا إلا أن يتغمّدنِى الله برحمته " فكيف هذا وهو صلى الله عليه وسلم خير خلق الله وإمام الهدى؟ والإجابة أن الجنة من عالم الأمر فلابد للإنسان الذى من عالم الشهادة أن يتغمّده الله برحمته ليتأهل لدخول الجنة، وكان شيخنا الشعراوى يقول لا تطلبوا الجنة لما فيها من نعيم مادى ولكن لأن بها رسول الله صلى الله عليه وسلم.

أمرنا الله بالعمل لعمارة الأرض " وقل اعملوا "، ويقول سيدى إبراهيم الدسوقى " إعمل ولا تلاحظ عملك فإن صمتَ فهو الذى صوّمك وإن قمتَ فهو الذى أقامك "، فإيّاك أن تغترّ بعملك لأن الفاعل الحقيقى هو الله " والله خلقكم وما تعملون "، وفسيولوجياً لو سُحبت الروح من الجسد لما ضخ القلب الدم أو فكّر العقل أو تذكّر أو تخيّل، أو تقلصت العضلات وارتخت لتحرّك المفاصل وكلّ هذا لازم لأداء أى فعل … وهذه الروح منفوخة فى الجسد من الله " ونفختُ فيه من روحِى " فالفاعل تحقيقاً هو الله، فاحمد الله أن أجرى العمل على يديك ولا تغتر به " فلم تقتلوهم ولكن الله قتلهم. وما رميت إذ رميت ولكن الله رمى " فهذا نفى لفعل الخلق ثم إثبات لفعل الخالق.

قال صلى الله عليه وسلم " لا إله إلا الله مفتاح الجنة "، وقال تعالى فى الحديث القدسى " لا إله إلا الله حصنِى ومن دخل حصنِى أمِن من عذابِى "، ومعلوم أن الإيمان والتوحيد محله القلب وهو المُعتمد عليه فى جميع التكليفات فلا نفع فى شيءٍ من أعمال الأعضاء ما لم يصحبها إخلاص القلب " وما أُمروا إلا ليعبدوا اللهَ مخلصين له الدين حنفاء "، وقال صلى الله عليه وسلم " لا يقبل اللهُ قولاً بلا عمل ولا عملاً بلا نية " وقال صلى الله عليه وسلم " إنما الأعمال بالنيات ولكل إمرئ ما نوى "، فمن نوى عملاً صالحاً ولم يعمله كانت له حسنة واحدة، فإذا عمله كُتب له بعشر حسنات إلى سبعمائة ضعف والله يضاعف لمن يشاء، وينوى السيئة فيتركها لله فتكتب له حسنة، فإذا اقترفها كُتبت عليه سيئة واحدة، فالكرم الإلهى اقتضى أن يكون الثواب للقلب على فعله وخدمُهِ من الأعضاء والعقاب على فعله وحده.
الندم توبة إذ هو من عمل القلب الماحِى للمعاصِى من النفس والأعضاء .

ليست الحسنات لأجل الأعمال وإنما لأجل النيات بها، وقد قسّم أهل العلم النيات لخمسة أقسام:
١- نية لأجل الله تعالى "يُريدون وجهه"، " قُل اللهَ ثم ذرْهم " وغاية هؤلاء " وأنّ إلى ربك المُنتهى "،
٢- نية لأجل الآخرة وهى تقتضِى حصول المطلوب كدخول الجنة مع الزيادة مشاهدة الحق تعالى وغاية هؤلاء سدرة المنتهى،
٣- نية للدنيا وتقتضِى حصول بعضها " من كان يريد حرث الآخرة نزد له فى حرثه ومن كان يريد حرث الدنيا نؤته منها وما له فى الآخرة من نصيب "،
٤- نية من أجل الناس وغايتها الدرك الأسفل مِن النار لأن الرياء هو الشرك الخفى وهو من أوصاف المنافقين
، ٥- نية من أجل النفس وتقتضى العُجب وهو هلاك الأعمال، فالعُجب يأكل الحسنات كما تأكل النار الحطب " إن الله لا يحب كل مختال فخور "، " لا يدخل الجنة من كان فى قلبه مثقال ذرة من كبر ".

النية عمل القلب وإن لم تصحب عمل الأعضاء فلا حرج فى مكروهها كما لا نفع فى محبوبها " إلا من أُكره وقلبه مطمئن بالإيمان "، وقال صلى الله عليه وسلم " إن الله تجاوز عن أمتى الخطأ والنسيان وما استُكرهوا عليه "، وقال أحد الصالحين " تعلموا النية فإنها أبلغ من العمل "، وصدق النية يكون فى صفاء القلب الذى ينتج الإخلاص الذى ينتج السلامة الذى هو مقام الخليل إبراهيم " إذ جاء ربه بقلب سليم "، وليس بعد ذلك سوى مقام الإستقامة وهو مقام سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم الذى قال عن نفسه "شيبتنِى هود، قيل وما شيبك منها يا رسول الله؟ قال قوله عز وجل فاستقم كما أُمرت " فلما استقام صلى الله عليه وسلم قيل له " وإنك لعلى خُلُق عظيم "، وقد قيل للمؤمنين " إنّ الذين قالوا ربنا اللهُ ثم استقاموا تتنزّل عليهم الملائكة أن لا تخافوا ولا تحزنوا وأبشروا بالجنة التى كنتم تُوعدون " فاستقامتهم هى الإقبال على محبّته فى القلوب وخدمته فى النفوس وذكره باللسان والفكر فى ذلك بالعقول فبهذا أُمروا ، والسلامة والإستقامة يُحصلان بالإخلاص وهو سبب القرب .
اللهم اجعلنا من الذين يستمعون القول فيتّبعون أحسنه والذين استقاموا على كلمة التوحيد، والله يقول الحق وهو يهدِى السبيل.