بوابة الدولة
بوابة الدولة الاخبارية

كمال ممدوح حمدي يكتب .. الواقع ... فكرة!

-

اللوحة التي
ترى صورة لها واحدة من أهم وأغرب أعمال الفن عموماً, إن لم تكن هى الأشد غرابة دون
غيرها, وهى بالتالى بيضة الديك الفريدة بين أعمال شديدة التميز لفنان يقف علامة
بارزة في تاريخ الفن على امتداد مساره .. كذا أبدأ على خلاف العادة بإصدار أحكام
قد لا تجد لها مبررها مع النظرة الأولى إلى اللوحة التي تبدو مشهداً عادياً للغاية
لمجموعة من الأطفال, من البنات, منشغلات بأمور بسيطة, هى في عالم الطفولة هموم
جسيمة وقضايا خطيرة يمارسها الصغار بكل الاهتمام والجدية حتى وإن كانت في سياق
اللهو واللعب, ويتشاجرون ويتخاصمون بجدية إعلان دولة للحرب على أخرى, أقصى ما يمكن
أن نلحظه لحساب براعة الفنان هو مهارته في دراسة شخصية كل طفلة في غمار ما تتبناه
لنفسها من شخصية أو ما تؤديه من سلوك .. تلك البنت في الوسط تماماً ربما كانت في
الرابعة من عمرها الحقيقي, وفي الأربعين من نضج المظهر والسلوك, بكامل زينتها
وبعناية تصفيف الشعر, وصباغة الوجه والشفاه, وربما صباغة الأظافر لو أنها عُرِفَت
في ذلك الزمن البعيد, تتصرف كسيدة مجتمع وتعرف أن خطوتها مراقبة ومحسوبة عليها
كسكنتها, وتعرف أنها لا ينبغي لها أن تضحك كما يضحك الأطفال من القلب, ولا ينبغي أن
تكون صارمة كرجل, فقط أن تكون رزينة ووقورة ومجاملة بلا إفراط, بهز رموش العين
يكفي, لا إحناء الرأس أو الظهر, تلبس ذلك الطوق تحت الملابس, لا اعرف ما اسمه,
ولكننا نراه في الافلام التي تصور تلك الفترة, القرن السادس عشر, يمد
"فستان" المرأة حولها مترا ًكاملاً من كل جانب, ولذلك لم تكن المرأة
تستطيع أن تعبر – بتملق – عن مشاعرها الحميمية لصديقتها بأن تلاقيها بالأحضان
وبينهما استحالة مترين .. تسلمان بالكاد بأطراف الأصابع .. غريب هنا أن ترتدي طفلة
هذا الطوق, لا يقلل من تلك الغرابة أن صديقتيها, إلى يسارها ويمينها, ترتديان
طوقين مماثلين, تضطران معه إلى الانحناء, للهمس بكلمة او لتقديم شيء, هما تلبسان
أدوات النضج رغما عن الأنف, لكي تكونا جديرتين بالمثول في حضرة, لا صحبة, الصغيرة
التي لا تعطي أذناً أو تعير بالاً لصديقتين تعلمتا مع برتوكول الأدب فنون الإطراء
والتملق دون مناسبة .. هما وصيفتان صغيرتان, حين تكبران ستحلان محل العجوز مع
رفيقها في خلفية اللوحة, عند الجدار بجوار الباب .. أقول إن اللوحة تبدو مشهدا
عاديا, اقصى ما يمكن ان يلحظ لحساب براعة الفنان هو مهارته

في دراسة شخصية
كل طفلة, ومن بينهن هاتان القزمتان اللتان جيء بهما لإزاحة الهم عن قلب الصغيرة
السعيدة, وامتصاص اسباب الكرب باقل حركة عادية لا تثير الانتباه لو انها من جسم
عادي, وانما تبدو غريبة ومضحكة من قزم, حتى الحركات الرشيقة التي يؤيدها الاقزام
فوق حلبات المصارحة تضحكنا, وكأن اولئك المساكين موصومون بالبلاهة والغباء دائما,
تماما كما يبدو وجه الطفلة العجوز إلى يمين اللوحة. لوحة بسيطة وعادية, لا يتميز
فيها بعد الصغيرة المشرقة التي احتلت مركز اللوحة وبؤرة الاهتمام الا ذلك الكلب
الرائع, الذي ابى الا ان يكون متقدما في المقام على اطفال في نظره بعد هذا العمر
الذي تعلم فيه الحكمة ليسوا الا اطفالا, فاحتل موقعا متقدما من واجهة اللوحة, على
عتبتها, وانخرط في تأملاته الحزينة لا يقطعها عليه ضجيج الصغار او عبثهم التافه,
ومرارا حاولت البنت القزم ان تزيحه بقدمها فلم يتحرك فيه ساكن, ولا حتى اهتزت
اذناه او انفرجت عيناه .. مشهد عادي هو ما يمكن ان تراه العين "حقيقة"
في "واقع" كهذا المكان, وربما لهذا السبب عرف صاحب اللوحة بانه
"استاذ الواقعية البصرية" او "فنان الرؤية الظاهرية" مع أن
اللوحة, بعد دقيقة واحدة, ستكذب هذا الادعاء, وستبدو تلك الصياغة الفلسفية لأحد
الذين كتبوا عن الفنان: "الواقع ليس فكرة, بل حياة معاشة, هذا ما تؤكده لوحات
الفنان" ستبدو اشارة إلى المدى الذي غرر إليه الفنان بنقاده ودارسيه.

اللوحة من أهم
أعمال الفن, ليس لأن كل الفن الاوروبي, من جويا إلى مانيه ثم إلى بيكاسو, يدين
بشيء إلى تلك اللوحة, وانما لأسباب أخرى ستكتشفها حين تداهمك على الفور باسباب
غرابتها .. أولا: ستلحظ – إلى اليسار – أن هناك فناناً يقف امام لوحة عملاقة, ترى
جزءاً من ظهرها, يمارس التصوير, فأي شيء يرسم؟ هو خلف البنات, فهل يصورهن من
ظهورهن؟ وثانياً: ستكتشف أن الفنان الذي يرسم هنا داخل اللوحة هو دييجو فيلاسكيز (1599
– 1660م) نفسه صاحب اللوحة التي ترى صورتها "الوصفيات" Las Meninas أي أن
فيلاسكيز الذي صور لنا هذه اللوحة المنشورة, للبنات الصغيرات اللائي نرى وجوههن هو
نفسه الموجود في نفس اللوحة يصورهن من ظهورهن, فكيف رأى نفسه خلف البنات وهو جالس
أمامهن يصور هذه اللوحة المنشورة لوجوههن؟ وثالثاً: ستدهش حين تعرف أن اللوحة
المنشورة هى نفسها هذه اللوحة التي تراها, داخل اللوحة أي أنك ترى وجه اللوحة
وظهرها في وقت واحد! فإذا كانت صور البنات على وجه اللوحة التي نرى ظهرها بحيث لا
يمكن أن نراها, فمن خلال أي شيء نرى الصغيرات يتحركن خارج اللوحة التي نرى ظهرها؟
ورابعاً: لابد أنك تتساءل كيف يقف فيلاسكيز امام لوحة ( تلك التي ترى جزءا منها
داخل هذه اللوحة ) يمارس التصوير, ويرى في نفس الوقت ظهر اللوحة التي يرسم فوقها,
بهذه الدقة, وبعدد المسامير في الحامل الذي تستند إليه؟ وخامساً:

هذا الجدار
الواقع خلفه, كيف صوره وهو يعطيه ظهره؟
وسادساً: هناك – كما ترى – في خلفية اللوحة باب مفتوح يدخل منه الضوء, يقف به رجل
مد يده يزيح ستارة كي يدخل مزيدٌ من الضوء, كيف رصد حركته فيلاسكيز, المنهمك
بتصوير البنات, والرجل يقف في موقع خلف ظهره؟ وسابعاً: لعلك تلحظ فوق الجدار في
خلفية اللوحة - إلى جوار الباب لجهة الفنان - مرآة صغيرة, في هذه المرآة نلمح
رجلاً وامرأة, هما يقفان الآن في نفس موقعنا من اللوحة, خارج مجال الوحة إلى
الامام .. نحن بوسعنا أن نرى صورتهما في المرآة لأننا في مواجهتها, ولكن المرآة في
اللوحة تقع خلف الفنان, فكيف رأى صورتهما في مرآة خلفه, وبهذه الدقة حيث تبدو
المرآة إلى يمين الرجل, مع أنها في الحقيقة كانت إلى يساره – لدى دليل – وقلبت
المرآة – كما تعرف – اليمين يساراً واليسار يميناً (حين تقف أمام مرآة مد يدك لكي
تصافح صورتك فيها, سترى انها تمد لك اليد اليسرى!)؟ وثامناً: لا تنزعج من كثرة
الأسئلة, هى لن تزيد عن خمسين سؤالاً – كقاعدة عامة, نحن عادة نرى أي لوحة من نفس
النقطة التي وقف عندها الفنان ورأى المشهد, أي أن الفنان لا يمكن أن يرى هؤلاء
البنات كما نراهن نحن الآن إلا إذا كان لحظتها جالساً أو واقفاً في نفس مكاننا,
ولكن هذا الرجل المثير, فيلاسكيز، يعكس القاعدة بحدة, ويقول: أنا لم أكن أمام هذا
المشهد حيث أنتم, بل خلفه تماماً. وها هى صورتي لحظة رأيته" فكيف؟ وتاسعاً:
تأمل اللوحة جيداً وحاول أن تفترض تقديراً للمسافة بينك وبين البنات, عدة أمتار
ربما, هى نفس المسافة التي لابد كانت بينهن وبين من صورهن من جهتنا من وجوههن, ثم قارن تلك المسافة بالمسافة بين الفنان
في اللوحة كما تراه وبين البنات, لا تزيد عن نصف المتر, فكيف يجتمع في لوحة واحدة
بعدان, أحدهما وهمي مقدر يبدو حقيقياً, والثاني فعلي ماثل يبدو وهمياً؟

وفي لحظة
واحدة, وفجأة تنهمر الأسئلة متدافعة, يمسك السؤال بتلابيب السؤال فلا تنقطع, إن
آثرت إحداها مصادفة تورطت في آخرها، دفعة واحدة, بأسئلة بلا إجابات تكرس جميعاً
لغرابة اللوحة, فإذا حاولت أن تخرج من دائرتها إلى افتراض بعيد عن هذا السياق
أعادتك أبسط الأشياء, مثل هذا الارتفاع العملاق للوحة التي ترى جزءاً من ظهرها
داخل اللوحة .. إنه نفس ارتفاع هذه اللوحة التي ترى صورتها فيما يؤكد أنها هى
نفسها حين كان يجري تصويرها, فلا تملك إلا أن تقبل بشروط التسليم للغرابة والدهشة
في هذه اللوحة المحيرة, وإلا كيف ترى الأمر؟

لو أن الكاميرا
كانت قد عُرفت آنذاك لقلنا إن ما تراه هو المشهد الحقيقي الذي جرى, البنات
الصغيرات, وفنان أمامه لوحة يصورهن, جاء من وقف مكاننا الآن وصور ما يجري صورة
فوتوغرافية هى التي تراها منشورة, وستبقى مسألة وقوف الفنان خلف البنات لتصوير
وجوههن نبحث لها عن حل .. أي أن فيلاسكيز قد صور المشهد لا على نحو ما يراه هو
(ظهر البنات) بل على نحو ما تراه كاميرا, وترى معه صورة الفنان نفسه, لم تكن هناك
كاميرا, فاستبدل بها "عين المشاهد" ليكون الأمر أن فلاسكيز قد صور
البنات, على نحو ما ترى مشهدهن عينك انت, لا عينه هو, ولتكون انت فجأة قد تورطت في
الأمر, أصبحت شاهداً اساسياً عليه، إن لم تكن قد دخلت إلى قلب الغرفة ووقفت أمام
البنات, دخلت مشهد اللوحة, وربما ظهرت صورتك في اللوحة التي يرسمها الآن وترى جزءا
منها, وربما لو تحركت قليلا لظهر وجهك في المرآة بدلا من الرجل والمرآة هناك, هما
بالمناسبة لا يريان صورتيهما بل صورتك في المرآة, مثلما انك لا ترى صورتك بل
وجهيهما .. هذا ما يحدث – تعرفه – حين تقف بزاوية أمام مرآة فترى ما يقع بالجهة
الاخرى بزاوية مماثلة (كالمرآة الجانبية لسيارة) .. تورطت في الدخول إلى ساحة مشهد
اللوحة, بوهم أنه المشهد (الحقيقي) الذي يجري في الحياة لا صورته التي لم يفرغ
منها الفنان بعد, فهل بعد ذلك امكانية اخرى يستطيعها فنان ليقنعك أنك ترى الواقع
لا صورته التي رسمها؟ وليكون هو بحق أستاذ الواقعية البصرية, وفنان الرؤية الظاهرة
الماثلة, وليصح ما قيل عنه من أن لوحاته تؤكد أن "الواقع ليس فكرة .. بل حياة
معاشة ".

لا بأس الوسيلة
التي استخدمها الفنان بسيطة للغاية, تعرفها من ملاحظتك أن الضوء (ضوء طبيعي؛ لأن
ثريات الاضاءة المدلاة من السقف مطفأة) يدخل من الباب الخلفي الذي يقف به أحدهم,
من خلف البنات ولكنه يغمر الوجوه ( ربما كان قادما من نافذة كبيرة إلى اليمين خلف
البنتين القزمتين ) وهذا كله معناه ان هناك مرآة ضخمة بحجم جدار, مكاننا الآن امام
البنات والمشهد كله, يرى من خلالها الفنان الواقف خلفهن وجوه البنات, وينعكس منها
الضوء القادم من خلفهن على وجوههن, لينقلب الامر كله رأسا على عقب .. فنحن الذين
نرى صورة "الواقع" مباشرة, اما الفنان فيرى صورة وهمية له في مرآة ..
وهم يصور وهما بالنسبة له يمثل لنا واقع الواقع وحقيقة الحقيقة, فلنجرب ان نلمس
شيئا من واقع الواقع لندرك انه "ايهام" بواقع طالع من قلب وهم صور
المرايا .. تلك المسافة – عدة امتار – بينك وبين البنات ليست حقيقة انها مسافة
انعكاس صورهن في مرآة يراهن عبرها الفنان مضاعفة، فها هو على قيد خطوة واحدة منهن,
وهذا الرجل والمرأة – هو الملك فيليب الرابع وزوجته, والدا الاميرة ماجريتا,
الفتاة الصغيرة في الوسط – يبدوان بعيدين للغاية لان المرآة الصغيرة عكست صورتيهما
بضعف المسافة, ورآها الفنان في المرآة الكبيرة على مسافة مضاعفة مرتين .. ثم يأتيك
غبش الالوان – بحساسية لا تصدق – ليؤكد ان ما تراه ليس هو الواقع الذي رأى الفنان
ظلاله الوهمية في مرآة, بل هو الوهم على نحو ما رآه الفنان مغبشا وبعيدا في
المرايا, لنعيد النظر في تغرير وقع فيه الناقد: "الواقع ليس فكرة بل حياة
معاشة" هذا ما تؤكده لوحات فيلاسكيز, نثبت في جملته المنفى, وننفي المثبت,
لتكون: "الواقع فكرة .. وليس حياة معاشة" هذا ما تعززه هذه اللوحة, التي
شغلتنا بطريقة تصويرها كما لو كان هذا هو موضوعها – لا الوصفيات – الذي لم ننتبه
إليه, عندي ادلة على ذلك اعود إليها.

قدمت هذه اللوحة منذ اربع سنوات ونصف مع وعد بالمعاودة, ها هو الوعد تحقق, فلا اعرف متى بالضبط يتحقق وعد بمعاودة اخرى..

إعلامي.. كاتب موسوعي