بوابة الدولة
بوابة الدولة الاخبارية

علي الكسار.. بربرى مصر الأصيل يرحل فى عنبر الفقراء بالقصر العينى

-
%d8%b9%d8%b9%d8%b9%d8%b9
كتب: أشرف بيدس 
ليست كل الحكايات متشابهة .. هناك دائما تفاصيل مختلفة لكل حكاية.. وهناك ملامح خاصة وربما تكون استثنائية.. وعندما نتكلم عن "على خليل سالم" (13- يونيو-1887 /15- يناير-1957) الذى اشتهر باسم "على الكسار" وهو لقب اتخذه من والدته التى كان يكن لها الاعتزاز والتقدير لوقوفها بجانبه، لزاما علينا أن نكون منصفين، وأن نعى فى سردنا القيمة التى بقيت من تاريخ الرجل، وما قدمه للمسرح المصرى، والفرص التى أتاحها للعديدين للولوج داخل هذا العالم السحرى، ونعى أيضاً أن الكثيرين من هؤلاء عندما تبوأوا مكانات مرموقة تناسوا فى ضجيج الأضواء من مد لهم يد العون فى بداياتهم، واستعانوا به على استحياء فى مشاهد لا تليق بتاريخه وفى أدوار هزيلة، ما كان فى حاجة لها لولا العوز والاحتياج، حتى أن كثيرا منها كان يمكن الاستغناء عنه، وبغض النظر عن هذه التفاصيل التى أدت إلى نهايات تعيسة خالفت ما كان متوقعا، فإن كل ما يهمنا هو الاقتراب أكثر من هذه القيمة الكبيرة.
بدأت الحكاية مع الفقر وانتهت معه، وكأنه فرض عليه رفيقا للرحلة الطويلة، نشأ فى السيدة زينب بحى البغالة قلب القاهرة، وسط عائلة بسيطة معدمة، الأب يعمل صانع أحذية يكاد يكفى قوت أسرته، ولم تتح الظروف للصبى سوى أن يتلقى النذر القليل من التعليم فى أحد كتاتيب الحى، لكنه لم يداوم على الذهاب، فخشى الأهل عليه من صحبة السوء، واصطحبه والده ليعمل معه، ويواجه الفتى مصاعب الحياة فى سن مبكرة، وفى الرابعة عشرة يضيق بالعمل، وتقرر الأم مفاتحة أخيها الذى كان يعمل طباخا فى اصطحابه معه، وبالفعل يصبح سفرجيا ويختلط بالمجتمع النوبى، ويعرف لغتهم ويتطبع بطباعهم الجميلة، فى ذلك الوقت كان يتردد على الفرق الفنية التى كانت موجودة بحى السيدة زينب، ليشبع رغبة مكمونة داخله لم يستطع مقاومتها.
يلتحق بفرقة "الأوبريت الشرقى" التى تقدم رواية «حسن أبو على سرق المعزة» ويقع اختياره على دور خادم نوبى، ولأنه عاشرهم وشرب طباعهم ينجح فى تقديم الدور بشكل لافت يحقق له نجاحا كبيرا، وبفطرته المتقدة يتنبه لهذه الشخصية ويحاول تطويرها وتظهر شخصية (عثمان عبد الباسط) الذى كانت سببا فى أن يطلق عليه النقاد لقب (بربرى مصر الوحيد) ويشتهر بتقديم شخصية النوبى الفطرى حتى تصبح مع الوقت لصيقة به، واستطاع من خلالها مجاراة نجيب الريحانى الذى ابتكر شخصية (كشكش بيه). فى ذلك الوقت يذيع صيت الكسار ويقرر تكوين فرقة خاصة بمشاركة أمين صدقى قدمت عروضها على مسرح الماجستيك، وتحقق الفرقة نجاحات كبيرة وتتلقى عروضاً فى الشام وبعض البلدان العربية، مما يشجع زكريا أحمد للانضمام لهم، لكن الأمور لم تدم طويلا، فينفصل الشريكان ويقرر الكسار تكوين فرقة خاصة به استطاعت أن تقف فى مجابهة الفرق المسرحية العريقة التى كانت منتشرة بشارع عماد الدين فى ذلك الوقت، يستمر الوضع لعدة سنوات وحتى منتصف الأربعينيات ليشهد مسرحه تراجعا بعد عدة أزمات مالية تتعرض لها الفرقة التى قدمت أكثر من 160 عملا مسرحيا مثلت حجر الأساس للمسرح الكوميدى.
فى السينما كان الامر مختلفا، فرغم صولات وجولاته بالمسرح ظل الشريط السينمائى هو ذاكرته الحية لكل الأجيال التى لم تعاصره، والغريب أنه بدأ مشواره السينمائى فى وقت مبكر وتحديدا فى عام 1920 عندما شارك أمين صدقى فيلم «الخالة الأمريكانية» وهو فيلم قصير (32 دقيقة) للايطالى "بونفيللي"، والأغرب أنه لم يعاود الوقوف أمام الكاميرا إلا بعد مرور 15 عاما عندما قدمه الكسندر فاركاش فى فيلم (بواب العمارة» عام 1935، ومع نجاح الفيلم، تلتقطه عين توجو مزراحى ويشكلان معا ثنائياً فنيا ساعد على انتشار الكسار سينمائيا، مستغلا قدراته الهائلة وقبول الجماهير على أفلامه حيث كان يمثل اتجاها جديدا فى الكوميديا، وبالفعل يأتى العمل الأول عام 1936 «غفير الدرك» ثم يعقبه «سلفنى 3 جنيه» و«عثمان وعلي» و«100 ألف جنيه» و«التلغراف» و«نور الدين والبحارة الثلاثة» و«على بابا والأربعين حرامي» و«الساعة سبعة» وهى تعد الأفلام الأشهر فى تاريخ الكسار والتى مازالت تعرض حتى يومنا هذا.
ورغم أن الكسار قدم أعمالاً سينمائية مع مخرجين آخرين مثل الفيزى اورفانيللى وعبد الفتاح حسن فإن تعاونه مع "مزراحى" مثل مرحلة مهمة فى حياته الفنية، فقد عرف كيف يوظف امكاناته بحيث تتفق مع طبيعته التى عشقتها الجماهير، وبلغت افلامه السينمائية 38 فيلما. ولكن مع رحيل توجو مزراحى إلى روما عام 1946، تفقد نجومية الكسار الكثير من بريقها، والحق انها فقدت بريقها بالكامل. ولم ينجح أحد فى تكملة ما بدأه معه وتبدأ مرحلة التجاهل.
مع نهايات الاربعينيات تتراجع مكانة الكسار السينمائية، ساعد على ذلك تراجعه مسرحيا، وبدأ يقل الطلب عليه، ويأتى هذا التراجع لظهور جيل جديد من الكوميديانات مثل إسماعيل يس وعبد الفتاح القصرى وعبد السلام النابلسى وحسن فايق فتحت لهم السينما ذراعيها وتهافت المنتجون عليهم، ومن ناحية أخرى فإن الكسار نفسه ارتضى الاشتراك فى أعمال ثانوية لا تتفق وتاريخه ساعدت على تقليص اسمه الكبير الذى كان يعتلى الأفيش وحده ليصبح مع الوقت اسما صغيرا قد لا يلحظ وسط قائمة كبيرة من الأسماء تسبقه، والمحزن أن فيلم «آخر كدبة» لفريد الأطرش وسامية جمال يظهر فيه الكسار فى دور خادم لا شغلة له سوى فتح الباب وغلقه فى مشهدين أو ثلاثة على أكثر تقدير وبكلمات لا فائدة منها، وهو ما كان مسرحه يملأ الأسماع وتتوافد عليه الجماهير دون انقطاع.
تعامل على الكسار مع النجومية بتواضع شديد وطيبة بالغة، ويا ليته ما فعل ذلك لكانت تغيرت أمور كثيرة، لقد أحس الرجل انه واحد من هؤلاء البسطاء لذلك لم يجعل هناك فواصل تمنعه من الناس وظل وثيق الصلة بهم، فمهمته الأولى هى إسعاد الناس وفى ذلك يقول : «لابد أن تكون هناك صلة بينى وبين الجمهور فإذا اتضح لى أن النص المكتوب لم يوفق فى إضحاك الناس لا أتردد فى أن ارتجل ما يضحكهم». لقد تعامل الكسار مع الفن ببساطة متناهية فكان يعى أن الفن متعة وتسلية فى الأساس، وكثيرا ما كان يدخل فى حوارات مع جماهيره وهو على خشبة المسرح، حتى إن بعض أفلامه تشهد بأنه كان ينظر للكاميرا ويوجه حديثا للمتفرجين. ربما كان يجول بخاطره بأن الأمر لا يستدعى كل هذه الحيطة فى التعامل، وأن التواضع مع الناس اقصر الطرق للوصول إليهم، كانت سريرته النقية تمنعه من التظاهر بعكس ما يجول داخله، كان طبيعيا جدا، وظن البعض أنها البلاهة وكان شديد الطيبة وظن البعض أنها السذاجة، لكن الحقيقة أن الرجل كان عملة نادرة بوجه واحد لا يعرف الزيف أو الكذب.
وإذا كان الرجل قد رضى بالفتات مع الأيام، فإن هذا الفتات لم يدم، وأصبح التجاهل والنكران سمتين بارزتين عجلا بالنهاية التى لم يستطع احتمالها، بعدما تم تخصيص راتب شهرى له لم يكد يكفى متطلبات الحياة لاسبوع واحد، فازدادت حالته النفسية سوءا وسرعان ما أصابه المرض ليدخل مستشفى قصر العينى، لكن آلامه لم تدم طويلا ويلفظ أنفاسه الأخيرة على أحد اسرة الدرجة التالتة مثل الكثيرين من فقراء الشعب، ولأنه عاش لهؤلاء البسطاء مات مثلهم فقيرا معدما لا يملك شيئا سوى حب الجماهير العريضة، التى أبى القدر إلا أن يموت مثلهم.