المستشار محمد سليم يكتب : معادن الرجال… حين يكشف الزمن جوهر النفوس

في أسواق الدنيا تختلط المعادن؛ يلمع بعضها سريعًا كزخرف النحاس، ويغيب بعضها في صمت كذهب مطمور ينتظر من يزيح عنه غبار السنين. وقد يظن البعض أن جوهر الرجال يُعرف من أناقتهم أو كلماتهم المنمقة في مجالس الود، لكن الحقيقة – كما قال الحكماء – أن النفوس لا تُختبر في لحظات الرخاء، بل حين تضيق الطرق وتشتد العتمة، وهناك فقط يتجلّى المعدن الأصيل من الزيف المطلي.
ولطالما تأملتُ – كما كان يفعل الدكتور مصطفى محمود – صراعات البشر وطبائعهم. واكتشفتُ أنّ كل إنسان يحمل في صدره معركة لا يراها أحد، ويخوض حربًا صامتة قد لا يشعر بها أقرب الناس إليه، فالبشر ليسوا ملائكة تمشي على الأرض، وليسوا شياطين كاملة السو ء- نحن خليط من الضعف والقوة، من الظلمة والنور، من الصواب الذي نفتخر به، والزلات التي نخجل منها.
والصحبة الصادقة – كما كان يردد العالم الجليل الشيخ الشعراوي – «رزق»، والرزق لا يُهان، ولا يُقابَل بالجفاء عند أول هفوة. فكم من صديق حمل هموم الدنيا على كتفيه، ثم عثر فجأة، فأسقطناه نحن بعتاب مُبالغ، وكأننا لم نُخطئ يومًا، ولم نتعثر مرارًا!
إنّ الصديق حين يَخطئ لا يستحق محكمة تفتيش، بل قلبًا يتسع لحيرته، وعقلًا يرى ما وراء اللحظة. فالخطأ قد يكون صرخة مكتومة، أو وجعًا لم يجد صاحبه لغة يشرحه بها، وقد يكون تراكمًا لأيام ثقيلة رسمت الهفوة كما تُرسم الشقوق في جدار قديم.
وليس من الرجولة – كما يقول الشعراوي – أن نرى الناس من ظاهر أفعالهم، بل من باطن نواياهم. فرب هفوة صدرت من قلبٍ طيب أثقلته الهموم، ورب صمتٍ كان اعتذارًا، ورب بعدٍ كان استحياءً لا جفاء. ومن العدل أن نرى الإنسان كاملًا، لا أن نحكم عليه من لقطة عابرة أو موقف متسرّع.
وأعجبُ – كدهشة الدكتورمصطفى محمود – من هؤلاء الذين يظنون أن العلاقات تُدار بالحسابات الدقيقة، وأن الصحبة دفتر تجاري تُسجّل فيه الديون والمستحقات. إن الصداقة ليست بندًا في ميزانية، بل شعور نبيل، ورابط خفي لا يقطعه إلا قلب قاسٍ أو عقل ضيق.
الرجال معادن… نعم، ولكن المعدن الأصيل لا يخون، ولا يصدأ، ولا يُغريه بريق المواقف المؤقتة. يظهر في وقت الشدة، ويثبت حين يتراجع الجميع، ويحتويك حين تتبعثر، ويظل بجوارك حتى وإن فقدت بوصلتك.
وإن اختلفتَ معه يومًا، فذلك لا يُنقص من معدنه، بل يزيده وضوحًا. فالاختلاف يكشف الصابر من المتسرّع، والناضج من الحانق، والوفي من المزيف. ومَن اعتذر يستحق حضنًا لا محاضرة، ومَن صمت يستحق انتظارًا لا اتهامًا، ومَن تعثر يستحق يدًا تُقيمه لا أصبعًا يُشير إلى سقوطه.
ومع الزمن ندرك أن أقسى المعارك ليست تلك التي نخوضها ضد الدنيا، بل تلك التي نخوضها ضد أنفسنا… ضد مزاجٍ عابر، أو كلمة جارحة، أو حساسية زائدة، أو عتب لا يليق بمن نحبه. ندرك أن البُعد لا يصنع رجالًا، وأن الهجر لا يرفع من قيمة أحد، وأن الكبرياء المفرط ليس قوة بل غربة.
يا رفقاء الدرب
إذا وجدت صديقًا يحمل عنك همًا، أو يسند ظهرك حين تتعب، أو يفهم صمتك أكثر مما يفهمون كلامك… فتمسّك به. لا تتركه لهفوة، ولا تحاسبه على لحظة ضعف، ولا تهدم أعوامًا من الود بسبب موقف عابر.
فالذهب الأصيل، حتى حين يخفت بريقه، يظل ذهبًا، والقلب الأصيل، حتى حين يتعب، يظل وفيًا، والصديق الأصيل، حتى حين يخطئ، يظل سندًا لا يُعوَّض.
علّمتنا الحياة أن الوفاء ليس خُلقًا عاديًا، بل رتبة عالية لا ينالها إلا أصحاب النفوس المضيئة. وأن الرجال لا يُعرفون من كلامهم، بل من وقفتهم يوم تُختبر العلاقات.
فاحفظوا أصحابكم - القلوب الطيبة نادرة، والرفقة الصادقة كنز- والمعادن النفيسة لا تُلقى في الطرقات.
كاتب المقال المستشار محمد سليم عضو المحكمة العربية لفض المنازعات بين الدول العربية وعضو اللجنة الدستورية والتشريعية بمجلس النواب

