بوابة الدولة
بوابة الدولة الاخبارية

سامح لاشين يكتب إرث الاستبداد وحلم الديمقراطية: أزمة وطن

الكاتب الصحفى سامح لاشين
-

اختزال المشهد السياسي في مصر باعتباره مجرد مأزق انتخابي للنظام والسلطة، وسوف يخرج منه بسهولة، يعتبر نظرة مبتسرة للغاية. ثم يُدفَع الناس دفعًا إلى نفق الدفاع عن المشهد، والترويج لما حدث باعتباره ظاهرة صحية تُؤكد وجود مؤسسات — للأسف الشديد، العكس هو الصحيح — فما حدث هو أحد مظاهر تآكل المؤسسات.

والأسوأ على الإطلاق هو استدعاء التاريخ للتأكيد على وجود ما هو أسوأ في الانتخابات، لا بهدف مناقشة قضية أزمة الحكم في مصر التي لم تحلّها لا ثورة ولا إصلاح. هذا، في وجهة نظري، تضليل متعمّد.

أزمة الحكم ضاربة في أعماق التاريخ بقدر عمق هذا الوطن، لكني أرغب في البدء من اللحظة التي أرادت فيها المقاومة الشعبية أن يكون لها كلمة، حين وقفت أمام الاحتلال الفرنسي وفرضت على الباب العالي من يحكم مصر، وبدأ وعيها يتفتح، بل أرادت أن تسترد روحها كي يعيش أبناء هذا الوطن بكرامة. فجاءت بمحمد علي، وكتبت وثيقة الشعب التي تُلزمه بالحكم بالشورى والعدل. إلا أنه مزّق الوثيقة، ونفى عمر مكرم، وأعدم الخضري، الزعيم الشعبي الذي جاء به إلى السلطة على غير رغبة الباب العالي. ومثّلت هذه اللحظة انفراد محمد علي بالسلطة ليكون الحاكم الوحيد الذي ينفذ ما يشاء من سياسات. وكان الكُرباج عنوان عصره، ألهب به ظهور الفلاحين، وتمددت مصر جغرافيًا على أكتاف الفقراء الذين ازدادوا فقرًا في عهده.

أزمة مصر أنه وطن يعيش تاريخه وحاضره، ويبحث عن الديمقراطية التي تحقق العدالة. لكن الحكام رأوا دائمًا أنه شعب لا يستحق الحرية. واستمرت أزمة الحكم حتى مع وجود الدساتير، لأنها كانت مجرد لعبة في يد الملوك والرؤساء. ومنذ اللحظة الأولى، بات واضحًا أن دستور 1923 لن يُطبق، وتم الالتفاف عليه، حتى أسقطه الملك فؤاد في 1930… فؤاد الذي تباهى بدكتاتوريته وأدعى أنه الخليفة.

وحتى بعد عودة العمل بدستور 1923 بعد انتفاضة 1935، جاء الطفل الصغير فاروق، الذي لم يتجاوز السادسة عشرة. وكان من المفترض أن يكون تحت مجلس وصاية، لكنهم احتسبوا عمره بالسنوات الهجرية — كل شيء يُدار بالتحايل — فأصبح ملكًا قبل بلوغه 18 عامًا. الأهم من ذلك أن الحكومات كانت تُسقَط، وخصوصًا الوفد، عند تضارب المصالح، ويُحل البرلمان، وتُزوَّر الانتخابات لصالح أحزاب القصر ورجالاته.

ثم جاءت دولة يوليو، ولم تحل أزمة الديمقراطية أو الحكم، بل على العكس تمامًا، فصنعت مظاهرات تهتف ضد الديمقراطية، وأصبحت كل خيوط اللعبة في يد الرئيس جمال عبد الناصر، وصنع مجلس الأمة بالتعيين في عصر التنظيم الواحد بعد إلغاء جميع الأحزاب، إلى أن عادت الأحزاب بقرار فوقي من الرئيس السادات لتكون مجرد عرائس ماريونت تُزيّن عهده. ولم يكن عصر مبارك سوى امتداد لحقبة السادات.

لم يتوقف احتكار السياسة في مصر. ونمت طبقة من الرأسماليين راكموا ثرواتهم بكل الطرق، مستغلين كل شيء من القانون وخارجه، وشكلوا نفوذًا وسطوة. وتوسع نفوذ النجل الذي أراد الحكم، ومهّد الطريق إلى 25 يناير، فرحل مبارك في فبراير 2011.

ودخلت مصر أزمة الحكم وفراغ السلطة، وسط فوضى من أدعوا أنهم نخب. وقفز الإخوان إلى السلطة، وهم أشد الجماعات عداءً للديمقراطية، وسعوا إلى الاستيلاء على الحكم وتغييب الجميع عبر سياسات التمكين، فكانت 30 يونيو.

وبعد 2014 أصبح المشهد السياسي يُدار من فوق، عبر هندسة سياسية من الأجهزة التنفيذية، مع أحزاب مصنوعة، وتحالف مع أصحاب المال، وأُغلقت اللعبة الديمقراطية بالكامل، فأصبحت شكلية بلا معنى ولا روح. وتنامى دور الرشوة السياسية، ما يسمونه المال السياسي، بينما أراه أنا مالًا حرامًا. وبدون إصلاح حقيقي لن يكون هناك مستقبل للديمقراطية… الديمقراطية التي تعاني مأزقًا كبيرًا ليس في مصر فقط، بل في العالم أيضًا.

نعم العالم بما في ذلك دول الغرب وأمريكا الحلم الذي راود الجميع ، إلا أن اليوم الديمقراطية في أزمة كبيرة … راينر ماوسفيلد في كتابه "لماذا تصمت الحملان ؟كيف تدمر الديمقراطية النخبوية النيوليبرالية مجتمعنا وأسس حياتنا" يقول في مقدمة الكتاب : " لقد تم مسخ الديمقراطية لتصبح استعراضا دوريا عبر الانتخابات تتيح للشعب انتخاب فئة من "أطياف النخب" . لقد تم استبدال الديمقراطية الحقيقية بوهم الديمقراطية ، كما تم استبدال النقاش العام الحر بإدارة الرأي وإدارة السخط وجرى استبدال المثال الأعلى للمواطنين الناضجين بمثال أعلى ليبرالي جديد للمستهلك غير المبالي سياسيا . ولم يبق من الآمال المرتبطة بمفهومي الديمقراطية والحرية سوى عبارات جوفاء لوعود كاذبة يبذلها الأقوياء ؟ تسمح بالتلاعب بفاعلية بوعي الأغلبية الخاضعة للسلطة.وبدوره تحول حق الشعوب اليوم إلى حد بعيد إلى أداة في يد السلطة السياسية الخفية .
راينر ماوسفيلد الباحث الأكاديمي الألماني عالج في كتابه حقيقة الديمقراطية وكيف تم تفريغ الكلمة من كل معنى ديمقراطي مرتبط بديمقراطية عصر التنوير بمعنى إخضاع السلطة للرقابة الدستورية والمحاسبة ، فضلا عن دلالة عنوان الكتاب القاسية عندما يصف شعوب بلدان الديمقراطيات التمثيلية التي تبنت نهج النيوليبرالية المدمر بأنهم مثل "الحملان الصامتة" متسائلا لماذا تصمت الحملان .
وأشار إلى أن ديمقراطية اليوم ليست تشاركية بل هي نخبوية ، حيث تتحكم نخب الاقتصاد والسياسة بخيارات السياسات ، ويصبح المواطن مجرد متفرج سلبي'" تصنيع القبول الشعبي بدل التمثيل الحقيقي للإرادة العامة ".

أما النيوليبرالية فهي لا تقتصر على السوق الحر ، بل تهدف لتدمير التضامن الاجتماعي عبر خصخصة الخدمات ، وإضاعف حقوق العمل وتعزيز اللامساواة . استخدام لغة تقنية لإخفاء العدالة الاجتماعية وتحميل الأفراد مسؤولية الفقر والبطالة.

أما ما يتعلق بآليات الطاعة والصمت رأى الباحث الألماني أن ترويض الوعي يأتي عن طريق التضليل الإعلامي وتبسيط الأخبار ، وإشغال الناس بالخوف والاستهلاك ، والإجهاد النفسي عن طريق ضغوط العمل وتقشف السياسات التي تؤدي لمنع التفكير النقدي، وإعلام لا ينقل الحقيقة بل يصنع التوافق الزائف ويدير الإدراك الجماعي لصالح الشركات الكبرى.

ويعتبر راينر ماوسفيلد أنّ أول خطوة للتحرر هو الوعي بالتلاعب الذي نخضع له ملخص لماذا تصمت الحملان ؟ يفضح كيف يمكن أن تتحول الديمقراطية إلى قناع يحمي سلطة المال والنخبة ، محذرا أن الصمت العام ليس طبيعيا ، بل نتيجة ترويض واعٍ وتلاعب ممنهج بالوعي الجماعي … وهذا ما يحدث في عالم اليوم وفي المجتمعات التي تباهت بأنها واحات للديمقراطية أما نحن فنبرع في دراسة هذه الآليات وتطبيقها لأننا في الأصل لم نكن نصنف ضمن المجتماعات الديمقراطية في أي لحظة من اللحظات .

كاتب المقال الكاتب الصحفى سامح لاشين مدير تحرير جريدة الاهرام