بوابة الدولة
بوابة الدولة الاخبارية

الكاتب الصحفى صالح شلبى يكتب: حين ترى المرض في القلوب… يسقط الغضب ويبدأ الفهم

الكاتب الصحفى صالح شلبى
-

نحن نظنّ ببساطةٍ مدهشة أن كل من يتحرك حولنا سليم العقل، معافى النفس، مستقيم الباطن، لذلك نظن أن ما يصدر منهم من جفاء أو طعنة أو خذلان إنما هو سوء نية متعمد، فنغضب ونثور وتشتعل نارٌ لا تنطفئ في صدورنا.

لكن الحقيقة أن أغلب الناس مرضى، لا تظهر عليهم علامات المرض، لأن أسقامهم ليست في الجسد، بل في القلب.

هناك من أكل الطمع قلبه حتى جفّ، لم يعد يرى إلا ما في أيدي الناس، ولا يشبع مهما امتلأت خزائنه، وهناك من أصابه الجشع، فلم يعد يرضى بنصيبه ولا يعرف للقناعة طريقًا، وهناك من ابتُلي بالبخل، فيمسك يده ويمسك قلبه ويمسك لسانه، لا يعطي مالاً ولا حنانًا ولا كلمة طيبة، وهناك مرض "قلة الأصل"، ذلك الداء العتيق الذي يجعل صاحبه يطعنك ثم يحلف أنه ينقذك، وهناك داء الخيانة الذي يجعل الإنسان ينكر عشرة السنين في لحظة، كأن الذاكرة عنده أصابها شلل،وهناك من لا يدرك معنى صلة الرحم، كأن الدم في عروقه ماء، يقطع أهله لأتفه سبب، أو يقسو عليهم كأنه لا يعرف وجوههم، ومنهم من يحمل الغلّ في صدره كقنبلة مؤقتة، ينفجر لأقل كلمة،ومنهم من ينظر إلى أملاك غيره كأنها حقه، فيتحول قلبه إلى حسد دائم لا يهدأ،ومنهم من اتخذ الفتنة مهنة، يشعل النار، ثم يقف يتفرج على الدخان وكأنه متعجّب من اندلاع الحريق،هؤلاء جميعًا مرضى، لكن مرضهم في الداخل، حيث لا يسمع أحد، ولا يرى أحد، ولا يداوي أحد، جرب أن تنظر إليهم بهذا الفهم، ستجد أن الغضب يسقط تلقائيًا.

الطماع ليس شريرًا لأنه يريد حقك، بل لأنه فقير من الداخل، يشعر دائمًا بالنقص، مهما ملك، والبخيل لا يمتنع عن العطاء لأنه قوي، بل لأنه ضعيف يخاف الفقر أكثر مما يخاف الموت.
وقليل الأصل مهما بدا متبجحًا هو في الحقيقة إنسان مكسور، يشعر بأنه لا قيمة له، فيبحث عن قيمته في إيذاء الآخرين،والقاطع لرحمه ليس صلبًا، بل مقطوعًا من الداخل، لم يعرف الدفء يومًا، وأصحاب الغل والحسد يعيشون في جحيم لا يراه أحد، لأن المقارنات تأكلهم كل يوم.
وصانع الفتن، مهما ادّعى الذكاء، هو شخص يخاف مواجهة نفسه، فيهرب لإشعال معارك بين الآخرين كي ينسى معركته مع ذاته.

هنا علينا أن نتذكر الدكتور مصطفى محمود عندما أكد «أعظم ما في الإنسان قلبه - فإذا فسد القلب فسدت الدنيا كلها في عينيه.»
هؤلاء القلوب المريضة يعيش أصحابها في عالم آخر، عالم مظلم، ضيق، خانق، يفسّرون فيه كل ابتسامة على أنها سخرية، وكل نجاح على أنه تهديد، وكل نعمة على أنها خصومة مع القدر.

حين تفهم ذلك- تتغير نظرتك.
لا تغضب من مريض يحمل في صدره غلًّا، ولا من طماع أثقلته رغباته، ولا من خائن يسير بأقدام تائهة لا تعرف الوفاء.

النظر إلى الناس كمرضى لا يعني أن نتساهل في حقوقنا، بل يعني أن نأخذ حقنا دون أن نحمل أوزارهم على أكتافنا ،علينا
أن نحفظ أنفسنا من الاحتراق بنيران غيرنا، علينا أن نفهم، والفهم نصف الشفاء.

في النهاية ستدرك أن أكبر انتصار تحققّه ليس أن ترد على الطعنة بطعنة، ولا أن تفضح من خان، ولا أن تلاحق من حسد.
أكبر انتصار، أن تظل سليم القلب في عالمٍ امتلأ بالأسقام، أن تمشي وسط المرضى، دون أن تُصاب،أن ترى الداء، ولا تتورط فيه،أن تفهم، فترحم، وإذا رحمت، ترتاح، جرب أن تنظر إليهم بهذا المنظار، ستكتشف أن نصف معاركك كانت بلا جدوى.

الحقيقة التي لا يلتفت إليها أغلبنا، أن الإنسان حين يمرض من الداخل، حين تصدأ روحه أو يختل ميزان عقله يصبح سلوكه كله معلولًا، تمامًا كالمريض الذي يسعل في وجهك من غير قصد، أو يترنّح أمامك من غير رغبة، فهل تغضب منه؟ أم تلتمس له العذر وتقول: «سامحه الله - إنه مريض.»

وهذه حكمة لا يعرفها إلا من تألم كثيرًا، ونضج كثيرًا، ثم قرر أخيرًا أن يحافظ على روحه من عدوى العالم.