بوابة الدولة
بوابة الدولة الاخبارية

مفتي الجمهورية: الإسلام دين عدل ورحمة وأفعال المتطرفين لا تمت له بِصلة

مفتي الجمهورية
أحمد صالح -

أكد الدكتور نظير محمد عياد مفتي الجمهورية، رئيس الأمانة العامة لدُور وهيئات الإفتاء في العالم- أن المجتمع اليوم يواجه حُزمة من التحديات المعقدة، التي تمس جوانب الفكر والسلوك والقيم، فقد برزت في الآونة الأخيرة موجات فكرية تستهدف نشر مصطلحات مغلوطة تهدف إلى إرباك الوعي العام، وإبعاد الإنسان عن ثوابته الدينية وتشويه الحقائق.

وتابع: يشهد المجتمع تحديات اجتماعية متنامية ناتجة عن ممارسات وسلوكيات تضعف الروابط الإنسانية وتفسد العلاقات بين الأفراد، إلى جانب التحديات التقنية التي تُستغل فيها بعض المنصَّات والتطبيقات الرقمية لنشر الرذيلة والتأثير السلبي على منظومة القيم، فضلًا عن التحديات الاقتصادية التي يعيشها المجتمع وما تخلفه من ضغوط وآثار مباشرة على الأُسر.

وأضاف: تبرز التحديات الدينية التي تظهر في صور الانفلات والتسيب والغلو والتشدد؛ الأمر الذي يؤكد الحاجة الملحَّة إلى تعزيز البناء العلمي والديني الرشيد، وإرساء منهجية واعية قادرة على ضبط الوعي العام، وتوجيه المجتمع لمواجهة تلك التحديات وتحقيق الحماية الفكرية والأخلاقية للأفراد والأسر.

توظيف التقنيات الحديثة يقتضي رقابة ذاتية واعية وحذرًا من التحيُّزات والمعلومات المضلِّلة

جاء ذلك خلال الكلمة التي ألقاها بجامعة المنوفية بعنوان "الأسرة في عصر التحديات"، بحضور الدكتور أحمد فرج القاصد، رئيس الجامعة، و الدكتور ناصر عبد الباري، نائب رئيس الجامعة للتعليم وشئون الطلاب، و الدكتورة غادة علي حسن، نائب رئيس الجامعة للدراسات العليا والبحوث، ولفيف من أعضاء هيئة التدريس والطلاب.

وأوضح المفتي أن الأسرة تمثِّل الركيزة الأساسية لاستقرار المجتمع، مشيرًا إلى أن الشرائع السماوية والفلسفات الوضعية على حدٍّ سواء تتَّفق على أن الأسرة هي الضابط الأول لحماية المجتمع من التفكك والانحلال. وأوضح أن هذا المبدأ رسَّخته الكتب المقدسة، فقد أكَّد القرآن الكريم هذا المقصد في قوله تعالى: {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً} [الروم: 21]؛ وذلك يعكس المكانة الكبرى للأسرة في تحقيق السكينة الإنسانية وصيانة البنية الاجتماعية.

وأشار إلى أن تناول موضوع الأسرة لم يعد مجرد شأن حياتي، بل أصبح «فريضة دينية» تفرضها النصوص الشرعية كما يفرضها واقع العصر. وأوضح أن الحديث عن هذا الملف في زمن الفضاء الرقْمي والتطور التكنولوجي، حيث تتداخل مسارات الخير بالشر، لَيكشف بوضوح عن أهمية الدَّور الذي تضطلع به الأسرة اليوم، ذلك الدور الذي يجمع بين دلالة النصوص الدينية ومتطلبات المرحلة الراهنة بما تحمله من تحديات متسارعة. وإنَّ قراءة تجارب الأمم عبر التاريخ لَتكشف بجلاء أن المجتمعات العربية والإسلامية، شأنها شأن المجتمعات المحافظة، استطاعت الحفاظ على تماسكها الاجتماعي بفضل قوة مؤسسة الأسرة المتجذِّرة في بنيتها الثقافية والدينية. وأن هذا النموذج يختلف عمَّا هو قائم في كثير من الدول الأوروبية، حيث يندر وجود الأسرة بالصيغة التي نعتز بها في العالم الإسلامي، ويُنظر إلى الروابط الأسرية هناك بوصفها علاقات قابلة للتفكك بسهولة، وفي أحيان كثيرة دون الضوابط القانونية أو الشرعية التي تميز منظومتنا الاجتماعية. ومن ثم، فإن أعداء الأمة يحاولون استهداف الأسرة التي هي صلب المجتمع، من خلال محاولات تقويض الزواج وإضعاف مؤسسة الأسرة عبر ترويج مفاهيم الحرية المطلقة والمثلية والحركات التحررية، بهدف محاربة البناء الاجتماعي المتماسك، وذلك من خلال أكثر من عشرين مفهومًا يسعى لتفكيك الأعراف والقيود التي تحمي المجتمع وتضبط سلوك الأفراد، مؤكدًا أن تقديس الأسرة وإدراك أبعادها يظل السبيل الأهم للحفاظ على المجتمع من التخلي عن القيم والأخلاق والتعاليم الدينية، مشيرًا إلى أن الالتزام بالمبادئ الصحيحة للأسرة من شأنه أن يحمي المجتمع ويعزز استقراره ويصون أفراده من التجارب الهدامة التي تستهدف المساس بالثوابت والمرتكزات الدينية الراسخة.

وذكر المفتي أن المصطلحات البراقة التي ظاهرها حسن وباطنها سوء، والتي تهدف إلى التقليل أو السخرية من الدين والعرف والعادات، تعدُّ من أبرز التحديات الفكرية التي يؤدي التفريط فيها إلى ضياع الفرق المائز بين الإنسان وغيره من الكائنات، حيث إن الدين هو الذي يوجه الناس إلى الصراط المستقيم كما جاء في قوله تعالى: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} [الحشر: 7]، بجانب ذلك العرف الذي يكمل الدين ويضبط سلوك الناس بما جاء من الحلال والحرام ما لم يخالف نصًّا دينيًّا.

وأضاف المفتي أن احترام العادات والتقاليد يمثل أحد أهم الضوابط التي تحفظ تماسك المجتمعات، ولا سيما في البيئات الريفية التي ما تزال تحافظ على أصالتها وقيمها. وأوضح أن المرحلة الراهنة تشهد انتشار مفاهيم مغلوطة تتعامل مع الحرية بوصفها مفهومًا فضفاضًا يتيح للفرد الانفلات من القيود والآداب الاجتماعية. ومن ثَم أكَّد فضيلته أن الحرية الحقيقية لا بد أن تكون منضبطة بحدود واضحة تقف عند حقوق الآخرين، ولا تتعارض مع أعراف المجتمع وقيمه، مشددًا على أن تجاوز هذه الحدود يحوِّل المجتمع إلى حالة من الفوضى تشبه "حياة الغابة" التي تُهدر فيها الحرمات وتُطمس القيم. وهكذا فالإنسان حر فيما يفعل شريطة ألا يضر الآخرين. واستشهد فضيلته في ذلك بالشاب الذي جاء إلى النبي ليرخص له في الفاحشة فأخبره النبي أنها ليست مقبولة عند الناس مثلما أنه لا يرضاها لأهله.

وعلى صعيد متصل أشار إلى أن من التحديات الفكرية كذلك ربط التطرف بالدين، فالشخص المتشدد والمنغلق على الدين يعد متطرفًا، مثله مثل من يستهين بالتعاليم الدينية ويخرج عنها، موضحًا أن التطرف قد يظهر على أقصى اليمين أو أقصى اليسار، وأن كل أشكال الغلو أو الإعراض عن الدين تشكل تهديدًا للمجتمع. وأضاف فضيلته: إن التطرف الديني قد ينشأ أحيانًا عن القراءات الانتقائية لبعض التيارات والتوجهات الفكرية، إذ يجافي الاعتدال والوسطية، في حين أرشدنا النبي ﷺ إلى الوسطية قائلًا لمن استقل عبادته: (أما إني أخشاكم لله وأتقاكم له، وإني أصوم وأفطر وأصلي وأرقد وأتزوج النساء، وآكل اللحم، فمن رغب عن سنتي فليس مني).

ونبَّه على أن بعض المفاهيم المغلوطة تؤثر في عقول الناس البسطاء، فتنتج صورًا ناقصة ومشوَّهة عن الدين، ومن ذلك حالات ميراث المرأة، حيث يُساء فهمها بدعوى أن الإسلام يظلمها، وأنها ترث النصف من الرجل رغم أن ذلك في حالات محدودة، فقد تتساوى مع الرجل وربما تزيد عنه، وقد ترث وهو لا يرث بحسب الأحكام الشرعية، كما أنها لا تتحمل النفقة التي تجب على زوجها. مؤكدًا أن هذه الأحكام تعكس تقدير الإسلام للمرأة وصيانة حقوقها المالية والاجتماعية، وتبرز مكانتها واحترامها كفرد ضمن الأسرة والمجتمع.

ولفت إلى أن من أبرز التحديات الفكرية التي تواجه المجتمع الربط بين الإرهاب والجهاد، إذ إن ذِكر الجهاد كثيرًا ما يُستحضر معه الإرهاب، رغم أن الجهاد في أصله قد شُرع لحماية الدين والعرض والأوطان والمقدسات، كما جاء في قوله تعالى: {وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلَا تَعْتَدُوا} [البقرة: 190]. وأوضح أن الناظر في الجماعات المتطرفة، مثل تنظيم داعش وأخواتها، أرادوا تشويه صورة الإسلام، وإظهاره بوصفه دين عنف وإرهاب، وهذا تصور خاطئ تسعى بعض الدول والمنظمات لترويجه، مؤكدًا أن الإسلام على الخلاف من ذلك تمامًا، فهو دين سلام وعدل ورحمة، وأن ما تقوم به هذه الجماعات لا يمتُّ للإسلام بِصلة.

وعلى صعيد التحديات التقنية أشار مفتي الجمهورية إلى أنه ينبغي التعامل معها بحذر، مؤكدًا أن استخدام التقنيات الحديثة مثل الذكاء الاصطناعي لا مانع منه، لكن لابد من مراعاة الرقابة الذاتية، خاصة أن هذه التقنيات لا تخلو من التحيز بحَسب المعلومات التي تم تغذيتها بها، مشيرًا إلى ضرورة الإقدام على الاستفادة من المنصات الرقمية للتعرف على كل جديد، شريطة الالتزام بالمبادئ الدينية وجلب الخير للإنسانية، مع الحذر من المعلومات المغلوطة التي قد تمس أشخاصًا أو دولًا أو أوطانًا.

واستعرض التحديات الاجتماعية التي تواجه الأسرة، ومن ذلك الاختلاط برفاق السوء، مستشهدًا بقول النبي صلى الله عليه وسلم: «لا تصاحب إلا مؤمنًا، ولا يأكل طعامك إلا تقي» وكذلك قوله: «المرء على دين خليله»، وقوله تعالى: {وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ يَقُولُ يَا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلًا * يَا وَيْلَتَا لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلَانًا خَلِيلًا * لَقَدْ أَضَلَّنِي عَنِ الذِّكْرِ بَعْدَ إِذْ جَاءَنِي} [الفرقان: 27 - 29] ، مؤكدًا أهمية مراعاة البيئة التي ينشأ فيها الإنسان، والتخلي عن العادات الخاطئة التي تتعارض مع نصوص الشرع، والحرص على اختيار الصحبة الصالحة.

واختتم كلمته بضرورة مواجهة هذه التحديات التي تتطلب التوعية والتنشئة الصحيحة، والحرص على تحصيل العلم الصحيح ونقل المعلومة من مصادرها الموثوقة، إلى جانب تنمية الوازع الديني وتحويل الدين من مجرد أقوال إلى أفعال، كما جسدت ذلك الآيات الكريمة: {قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ * الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ} [المؤمنون: 1 - 3].

من جانبه، رحَّب الدكتور أحمد القاصد بالمفتي معربًا عن شُكره لتشريفه الجامعة، مشيدًا بدَوره العلمي والفكري الذي يعكس صوتًا منيرًا تعتز به الجامعة، وما يقدمه من جهود مخلصة لمصر ولمواجهة الفكر المتطرف، وقدم لفضيلته درع الجامعة، احتفاءً بجهوده المستمرة وعطائه المتميز في المجال العلمي والديني، تقديرًا لدوره البارز في تعزيز الفكر المعتدل ومواجهة التطرف، ولما يقدمه من إسهامات رائدة تعكس قيم العلم والوعي الديني والمسؤولية الوطنية، مؤكدًا أن هذا التكريم يأتي عرفانًا بما قدمه فضيلته من خدمات جليلة للمجتمع والجامعة وللأمة بشكل عام.