موازنة بريطانيا المرعبة تدفع المستثمرين للفرار خارج البلاد

تشهد بريطانيا أزمة حقيقية في تراجع الثقة بالبيئة الاستثمارية، إذ يختار آلاف أصحاب الأعمال ومديرو الشركات مغادرة البلاد بحثاً عن أفاق اقتصادية أفضل، في هذا الصدد تكشف التطورات الأخيرة عن انقسام عميق بين رؤية حكومة رئيسة الخزانة البريطانية راتشيل ريفز "للنمو الاقتصادي" وواقع السياسات الضريبية القاسية التي تطردها رجال الأعمال والمستثمرين من البلاد.
الهروب الجماعي
تزامن إعلان الحكومة عن موازنة "مرعبة" مع موجة غير مسبوقة من هجرة رجال الأعمال. فقد كشفت وثائق شركة هاوس البريطانية، وفقاً لتحليل أجرته صحيفة ذا تليجراف، عن بيانات مثيرة للقلق، إذ غادر 6,100 مدير أعمال المملكة المتحدة خلال الاثني عشر شهراً الماضية، بارتفاع حاد بلغ 42% مقابل 4,300 مدير في الفترة السابقة.
هذه الأرقام تعكس تغييرات الإقامة الرسمية من المملكة المتحدة إلى دول أجنبية، وتشير إلى تصميم حقيقي على مغادرة البلاد وليس مجرد نقل مؤقت.
الأكثر إثارة للقلق أن الهجرة لم تكن عشوائية، بل ركزت على الشركات المعرفية والتقنية ذات القيمة الاقتصادية العالية، حيث قادت قطاعات الأنشطة المهنية والعلمية والتقنية بـ 982 مدير أعمال، تليها قطاع الاتصالات والمعلومات بـ 917 مديراً، والتجارة والتجزئة بـ 822 مديراً، ما يعني أن بريطانيا تخسر النخبة الاقتصادية والعقول المبتكرة التي تدفع الاقتصاد للأمام.
سياسات ضريبية قاسية وقرارات غير مستقرة
تشير التحليلات الصادرة عن معهد المديرين البريطاني إلى أن سلسلة من القرارات الضريبية الحادة قادت الشركات للهروب من البلاد. بدأت الأزمة بإلغاء وضع "غير المقيمين" ضريبياً، وانتقلت إلى تقليل الإعفاءات الضريبية على الشركات العائلية ورفع ضريبة الأرباح الرأسمالية، وأضيفت إليها شائعات متكررة عن ضريبة خروج محتملة.
قالت آنا ليتش، كبيرة الاقتصاديين بمعهد المديرين، لصحيفة ذا تليجراف: "السياسات غير المستقرة وعدم الوضوح يدفعان الشركات للبحث عن بيئات استثمارية أكثر أماناً واستقراراً."
ما يزيد الطين بلة أن الحكومة كانت قد وعدت برؤية واضحة وسياسات طويلة الأجل، لكن الواقع أظهر نهجاً متذبذباً ومرتبكاً في صياغة القرارات.
أشارت ليتش إلى أن هناك "شعوراً بأزمة متصاعدة بين أوساط الأعمال، خاصة الشركات الصغيرة والمتوسطة"، مؤكدة أن "رفع الضرائب بهذا الشكل الضخم على القطاع الذي يُفترض به أن يقود النمو الاقتصادي يبدو غير عقلاني تماماً."
وجهات الفرار
تكشف البيانات أن أصحاب الأعمال البريطانيين اختاروا وجهاتهم بعناية، حيث استقطبت بعض دول الخليج الحصة الأكبر من الهاربين.
في الفترة من 2023 إلى 2024، انتقل 325 مديراً إلى الإمارات، لكن هذا الرقم ارتفع بشكل مثير إلى 571 مديراً في الفترة من 2024 إلى 2025، بزيادة تجاوزت 75%.
جاءت إسبانيا في المرتبة الثانية بزيادة 35.2%، حيث ارتفع عدد المديرين من 332 إلى 449، بينما احتلت الولايات المتحدة المركز الثالث برقم متزايد من 294 إلى 373 مديراً بزيادة 27%.
هذا التوجه نحو الإمارات وإسبانيا يشير إلى بحث واعٍ عن بيئات اقتصادية أكثر استقراراً وبنى تحتية ضريبية أفضل، حيث تعتبر الإمارات خاصة ملاذاً للمستثمرين الساعين للاستقرار السياسي والاقتصادي.
انتقادات حادة من المعارضة والقطاع الخاص
لم تمر هذه الظاهرة المقلقة مراقبين دون تعليق، إذ انتقد أندرو جريفيثس، الناطق باسم المعارضة والظل لوزير الأعمال، السياسات الحكومية بحدة، واصفاً إياها بـ "الإهمال الرعيع".
قال لصحيفة ذا تليجراف: "حكومة ريفز خلقت بيئة معادية تماماً لخالقي الثروة والمديرين والقيادات الاقتصادية. موازنتها المرعبة ستؤدي إلى تأثير مدمّر على الاقتصاد البريطاني، والأضرار بدأت بالفعل".
من جانبه، أكد كريج بومونت، المدير التنفيذي لاتحاد الشركات الصغيرة والمتوسطة، أن رجال الأعمال يبحثون دائماً عن الفرص الاقتصادية الأفضل، وأن هجرتهم الجماعية من بريطانيا "فكرة مقلقة جداً تعكس فقداناً للثقة في السياسات الحكومية".
طالب الاتحاد بضرورة امتلاك الحكومة استراتيجية حقيقية موالية للمشاريع والاستثمار بدلاً من السياسات الطاردة.
دفاع حكومي
ردت الحكومة البريطانية بشكل دفاعي على الانتقادات، معللة قراراتها بمبادئ العدالة الضريبية، إذ قال المتحدث باسم وزارة الخزانة: "من يختار أن يعيش في بريطانيا عليه أن يدفع الضرائب هنا"، مؤكداً أن إلغاء وضع "غير المقيمين" جاء لتمويل الخدمات العامة بما فيها الخدمة الصحية الوطنية، كما ان الحكومة حاولت تسويق سياساتها بقولها إن "معدل ضريبة الأرباح الرأسمالية في بريطانيا أقل من جميع دول مجموعة السبع الأوروبية."

