المستشار محمد سليم يكتب: بيان النيابة الإدارية يستحق أن يدرس

فى خضم المشهد الانتخابى المربك الذى تشهدة البلاد ،لم يكن بيان نادي قضاة النيابة الإدارية مجرد نَفَس احتجاجي عابر، بل كان - في قناعاتي القانونية - ضبطًا للميزان وصرامة في تحديد المسؤوليات، ليصنع فارقاً واضحاً بين المواربة والوضوح بين لغة التجميل التى اعتدنا عليها فى بعض المؤسسات ، ولغة قول الحقيقة بصوت مرتفع ، النادي لم يهاجم كيانات من فراغ ولم يثر ضجيجًا بلا مبرّر بل سلّط الضوء على واقع ميداني يحتم الوقوف عنده، قضاة مكلفون بالإشراف على الانتخابات تعمل تحت ظروف قد تضعف من قدرتهم على الأداء وما بين السطور كان البيان يردع أي محاولة لتصغير دورهم أو تحميلهم تبعات تنظيمية ليست من شؤونهم، نادى النيابة الادارية لم يكتب بياناً تقليدياً، بل حرر شهادة ميدانية دقيقة، وصاغ موقفاً مهنياً وأخلاقياً يحسب له ويستحق الاشادة والتقدير .
لقد قرأت البيان بتمعنٍ وتقدير، ووجدت أنه للمرة الأولى منذ سنوات، تخرج مؤسسة قضائية لتقول ما يجري كما هو، لا كما يجب أن يبدو، فالبيان لم يتردد في وصف نرجسية بيان نادي القضاة، ولم يجامل قسوة الهيئة الوطنية للانتخابات، ولم يتحدث بعبارات مطاطية، بل وضع الحقائق عارية أمام الجميع.
أبرز رسالة حملها البيان — وأحسبها الأهم — كانت دفاعًا عن كرامة القاضي أثناء إشرافه على الانتخابات. فحين يقول النادي إن أعضاء النيابة الإدارية عملوا 13 ساعة في اليوم الأول وأكثر من 15 ساعة في اليوم الثاني، دون توفير وسيلة انتقال لائقة أو إقامة آدمية، فهو لا يشتكي بل يحاسب. يحاسب جهة التنظيم، ويحذر من أثر هذه الظروف على جودة العمل، بل وعلى نزاهة العملية نفسها، القاضي ليس آلة، والقضاء لا يمارس في بيئة مرهقة أو فوضوية.
أشيد أولًا بنادي قضاة النيابة الإدارية على شجاعة الوضوح، فالبيان لم يختبئ خلف عمومات بل سمّ التعليمات وأشار إلى نقاط ملموسة مثل ساعات العمل الطويلة ونقص وسائل النقل والإقامة الملائمة وحرمان مندوبين أو وكلاء من استلام محاضر الحصر العددي في بعض اللجان وهي ملاحظات لا يمكن تجاهلها لأنها تمس نزاهة العملية الانتخابية وبالأساس تهم مباشرة من يُكلف بحمايتها.
ولكي نكون منصفين ودقيقين، لا بد من توضيح ما صدر عن الهيئة الوطنية للانتخابات من تعليمات رسمية أو توضيحات متكررة والتي تعاملت بها الجهات الميدانية وكانت لها أثر مباشر على ما يشتكي منه النادي وتوضح من هو المخوّل بحضور الفرز واستلام محاضر الحصر العددي، فقد شددت الهيئة على التفريق بين الوكيل والمندوب، مؤكدة أن الحضور أثناء الفرز والحصول على الحصر العددي مخصص للمرشح أو لوكيله القانوني الموثّق من الشهر العقاري، بينما المندوب العادي لا يملك حق الاستلام، كما أكدت الهيئة أن محاضر الحصر العددي تُسلم للوكيل أو المرشح شخصيًا وفقًا للإجراءات وليس لأي مندوب غير موثّق، وأشارت أيضًا إلى ضرورة الالتزام بضوابط الحضور أثناء عملية الفرز وحثت رؤساء اللجان على تطبيق التعليمات دون تساهل، كما أكدت على إجراءات التعامل مع المخالفات في حال وجود تجاوزات في أي لجنة فرعية والتي قد تصل إلى إلغاء النتائج أو إحالتها للتحقيق وهو ما ظهر في إلغاء نتائج بعض اللجان الفرعية وإعادتها للتحقيق.
لكن البيان لم يتوقف عند الجوانب الإنسانية فقط؛ بل ذهب إلى لبّ المشكلة، وهي التعليمات الصادرة من الهيئة الوطنية للانتخابات، والتي تسببت في كثير من الجدل على الأرض، وتركت القضاة في مواجهة مباشرة مع مندوبين ووكلاء المرشحين. ومن واجبي هنا توضيح تلك التعليمات التي أصبحت محورًا للأزمة:
هذه التعليمات الرسمية رغم وضوحها تلاقَت في بعض الميدان مع ممارسات وإشكالات أدت إلى لَبس أو خلاف حول من يملك الاطلاع أو الاستلام الفعلي لمحاضر الفرز، وهنا يبرز دور النادي ليس فقط للدفاع عن قضاة النيابة الإدارية بوصفهم منفذين لواجب بل للتذكير بأن الإجراءات التنفيذية يجب أن تراعي كرامة من ينفذها وتضمن شفافية كاملة أمام الجميع، وبين السطور كذلك رسالة أخرى، إذا كانت الهيئة تضع قواعد صارمة بشأن من يملك الحصر العددي، فإن عليها أيضًا أن تضمن ظروفًا لوجستية وإنسانية تحمي القاضي من الإجهاد وتضمن له وسائل انتقال وإقامة لائقة واحترام حدود ساعات العمل، فاحترام تعليمات تسليم المحاضر وحدّ الاستحقاقات لا يلغيان مسؤولية الجهة المنظمة في توفير بيئة عمل تحفظ نزاهة الأداء.
وبعد القراءة القانونية للبيان نرى أن هناك أخطاء حدثت لا يجب أن تمر مرور الكرام، فقد أصاب بعض الأطراف العملية الانتخابية بالعوار في ضوء إعادة تسعة عشر دائرة كاملة في سبع محافظات، والسؤال الأهم من المسؤول عن تلك الإساءة ومن المسؤول عن المدد الزمنية الضائعة التي لم تستفد بها الدولة والمرشحون ومن يتحمل تكلفة الإعادة التي أرهقت ميزانية الدولة وأثرت على استقرار العملية الانتخابية.
كرجل قانون وعملى السابق فى الهيئة القضائية ، أقول، إن بيان نادي قضاة النيابة الإدارية استدعاء للضمير المؤسسي ورسالة لكل من يتلاعب بإجراءات العملية الانتخابية أو يضع القضاة في مواقف صعبة، هو يطلب ألا تتحول التفاصيل الإجرائية إلى ذرائع تقوّض الثقة وفي الوقت نفسه يفتح الباب للنقد القانوني الصريح للجهات المسؤولة عن الأخطاء التي حدثت لضمان عدم تكرارها مستقبلاً ولهذا يستحق البيان الإشادة، لأن من يحمي العملية الانتخابية هم القضاة أولًا ومن واجب الهيئة الوطنية للانتخابات أن تضع تعليمات واضحة وتنفيذها بدقة مع مراعاة إنسانية من يؤدون هذا الواجب وتحاسب كل من يخطئ أو يعرقل سير العملية.
وأشهد - كرجل قانون قبل أن أكون سياسياً وعملى السابق فى القضاء - أن نادي قضاة النيابة الإدارية قدّم بيانًا رفيع القيمة، شاملاً، دقيقًا، لا لبس فيه ولا خوف، قال الحقيقة، واحترم القارئ، واحترم القاضي، واحترم المهنة.
بيانٌ يستحق أن يُدرَّس، لأنه وضع الجميع أمام مسؤولياتهم، ووضع القضاء في مكانه الطبيعي ضمير الدولة، لا موظفًا يتلقى التعليمات.
كاتب المقال المستشار محمد سليم عضو المحكمة العربية لفض المنازعات وعضو اللجنة الدستورية والتشريعية بمجلس النواب السابق

