بوابة الدولة
بوابة الدولة الاخبارية

د. سمر أبو الخير تكتب: فرط الحركة عند الأطفال.. طاقة إيجابية أم مرض؟

د. سمر أبو الخير
داليا فوزي -

تُعَدُّ الطفولة من أكثر المراحل العمرية ثراءً بالحيوية والانفعال، فهي فترة تتفجَّر فيها الطاقة والرغبة في الاكتشاف والحركة. فالطفل لا يهدأ؛ يتحرَّك، يسأل، يلمس كل ما يراه، محاولاً فَهْمَ العالم بطريقته الخاصة.

هذه الطبيعة النشطة هي السمة الغالبة على سنوات العمر الأولى، غير أن بعض الأسر تشعر بالقلق حين تتحوَّل حركة الطفل إلى سلوك مفرط أو تخريب متكرر في المنزل، أو فضول يتجاوز الحدود المأمونة.

في الحقيقة، لا يمكن النظر إلى هذه السلوكيات بمعزل عن المرحلة العمرية للطفل، فالنشاط الزائد قد يكون طبيعيًا ومؤشرًا على نمو بدني وعقلي سليم، لكنه قد يشير أحيانًا إلى اضطراب يُعرف باسم اضطراب فرط الحركة وتشتت الانتباه (ADHD)، وهو أحد أكثر الاضطرابات السلوكية شيوعًا في العالم.

ووفقًا لتقديرات منظمة الصحة العالمية لعام 2024، فإن ما بين 5% إلى 7% من الأطفال على مستوى العالم يُصابون بهذا الاضطراب، الذي يتميز بصعوبة التركيز، وعدم القدرة على إتمام المهام، والاندفاعية في السلوك.

وعندما يلاحظ الأهل أن طفلهم لا يستطيع الجلوس في مكانه لفترة قصيرة، أو ينتقل من نشاط إلى آخر دون إتمام أي مهمة، أو يفقد اهتمامه بسرعة، فعندئذٍ ينبغي التوجه إلى متخصص نفسي أو تربوي لتقييم الحالة، باستخدام أدوات تشخيصية معتمدة مثل مقياس «كونرز» لفرط الحركة وتشتت الانتباه.

أما السلوك التخريبي في المنزل، ككسر الأدوات أو العبث بالأثاث، فليس في الغالب تعبيرًا عن نية عدوانية، بل هو نتيجة طبيعية لطاقة داخلية غير موجهة، فالطفل الذي يُمنع باستمرار من اللعب أو الحركة الحرة، قد يلجأ إلى تفريغ طاقته في أفعال غير مقبولة، كما أن بعض الأطفال يسعون، من خلال هذه السلوكيات، إلى لفت انتباه والديهم في بيئة تفتقر إلى التواصل الوجداني أو التفاعل الإيجابي.

وتؤكد الدراسات التربوية أن العقاب المستمر لا يؤدي إلى تعديل السلوك، بل يعزز العدوانية والانطواء، بينما يحقق التعزيز الإيجابي نتائج أفضل بثلاثة أضعاف، وفقًا لتقارير الجمعية الأمريكية لعلم النفس لعام 2023.

أما حب الاستطلاع والاستكشاف عند الأطفال، فهو من الصفات الأصيلة في تكوينهم العقلي والنفسي، إذ يمثل الوسيلة الأولى للتعلم وفهم العالم، فالطفل يتعلم من خلال الملاحظة واللمس والتجربة، وهو ما وصفه عالم النفس جان بياجيه بأنه «المعمل الأول للمعرفة».

وهنا لابد وأن ندرك أن غياب التوجيه والإشراف قد يحوِّل هذا الفضول إلى سلوك خطير، كفتح الأجهزة الكهربائية أو استخدام الأدوات الحادة، وهنا تبرز أهمية الدور التربوي للأسرة في تحقيق التوازن بين إتاحة الفرصة للطفل لاكتشاف ما حوله بحرية، ووضع الحدود التي تحميه وتحافظ على سلامة البيئة من حوله.

ومن المهم توجيه هذه الطاقة إلى قنوات بنَّاءة، كالرسم، والألعاب التركيبية، والرياضة، والأنشطة العلمية المبسطة التي تُشبع فضول الطفل وتشجعه على التفكير الإبداعي، إذ تظهر تقديرات وبحوث منظمة اليونيسيف أن الأطفال الذين يشاركون بانتظام في أنشطة معرفية وحركية منظمة، تقل لديهم السلوكيات العدوانية بنسبة 40% مقارنة بغيرهم.

وتأتي التربية الإيجابية كأحد أهم الأساليب التربوية الحديثة التي تحوِّل الانتباه من العقاب إلى التحفيز، والتربية الإيجابية تقوم على الثناء عند السلوك الصحيح، والصبر عند الخطأ، والتكرار في التوجيه دون قسوة، حيث أن الطفل الذي يسمع كلمات تشجيع عند التزامه أو اجتهاده، يبني ثقة بنفسه ويكرر السلوك الإيجابي تلقائيًّا، بينما يؤدي العقاب القاسي إلى تراجع الدافعية وتولُّد الخوف بدلاً من التعلم.

والرسالة العلمية التي ينبغي تلقينها لكل أولياء الأمور، إن الحركة الزائدة، والسلوك التخريبي، وحب الاستطلاع، ليست بالضرورة مؤشرات سلبية، بل قد تكون دلائل على طاقة فطرية وفضول معرفي عميق، يمكن للأسرة والمربين تحويلها إلى قوة بنَّاءة إذا أحسنوا توجيهها، فكل طفل يملك في داخله بذرة إبداع تحتاج فقط إلى رعاية وصبر وفهم.

وإن كل سلوك يصدر عن الطفل يحمل وراءه معنى رغبة في التعلم، أو حاجة إلى التواصل، أو بحثًا عن الأمان، ومن واجب الأسرة والمجتمع أن يستوعب هذا المعنى ويحوله إلى فرصة للنمو، لا إلى تهمة أو خطأ، فالأطفال لا يولدون مشاغبين، بل يولدون باحثين عن معنى الحياة في أبسط تفاصيلها.