بوابة الدولة
بوابة الدولة الاخبارية

المستشار محمد خليفة يكتب: النماذج الربحية كمسار آمن لتقليل مخاطر المؤسسات الإعلامية

المستشار محمد خليفة
-

تمر المؤسسات الإعلامية في الوقت الحالي بظروف معقدة ومتشابكة ومخاطر متعددة تفرض عليها إعادة النظر في بنيتها التمويلية واستراتيجيات البقاء. لم تعد البيئة الإعلامية كما كانت قبل سنوات مضت حيث الاعتماد شبه الكامل على الإعلانات كأداة تمويل مستقرة وقوية.

اليوم تواجه المؤسسات الإعلامية مجموعة متنوعة من التحديات والمخاطر، من بينها تراجع ثقة الجمهور، وتحول عادات الاستهلاك نحو المنصات الرقمية، وتزايد المنافسة من محتوى الأفراد على السوشيال ميديا فضلا عن الضغوط السياسية والاقتصادية التي تفرض بشكل مباشر أو غير مباشر على أداء المؤسسات واستقلالها. وسط هذه الظروف يصبح من الطبيعي البحث عن نماذج ربحية بديلة وآمنة تمكن المؤسسات من مواصلة عملها وتقليل حجم المخاطر التي تهدد استمراريتها وصمودها.
فعندما ننظر إلى المشهد الإعلامي العالمي، نجد أن النماذج الربحية لم تعد نمطا واحدا ثابتا كما كان عليه الحال في الإعلام التقليدي. بل أصبح من الضروري أن تعتمد كل مؤسسة إعلامية على نموذج ربحي يتناسب مع طبيعة محتواها وجمهورها المستهدف والبيئة التي تعمل فيها.

في السابق كانت المؤسسات الإعلامية تتلقى إيراداتها بنسبة كبيرة من الإعلانات وكانت هذه الإعلانات تبنى على قاعدة جماهيرية مستقرة نسبيا خاصة في الصحف الورقية والقنوات التلفزيونية. لكن مع تحول الجمهور إلى المنصات الرقمية وتراجع قدرة المؤسسات على جذب نفس الكم من الإعلانات بدأت الحاجة تزداد إلى إعادة تشكيل النموذج الاقتصادي للمؤسسة الإعلامية بما يضمن لها موردا ماليا مستداما.
من النماذج الربحية التي بدأت تفرض نفسها بقوة في المشهد الإعلامي نموذج الاشتراك المدفوع حيث يقوم الجمهور بدفع اشتراك شهري أو سنوي مقابل الحصول على محتوى معين. هذا النموذج يحتاج إلى جمهور وفي ومستعد للدفع وهو ما يتحقق غالبا عندما تقدم المؤسسة محتوى مميزا موثوقا وغير متاح بسهولة في أماكن أخرى. كذلك هناك نموذج الإعلانات الرقمية والذي يعتمد على تحقيق أرباح من خلال عدد الزيارات والمشاهدات إلا أن هذا النموذج يواجه تحديات كبيرة في ظل انخفاض العائد الإعلاني الرقمي بسبب تشبع السوق وهيمنة منصات كبرى على النسبة الأكبر من الإعلانات.
وهناك من المؤسسات الإعلامية التى تلجأ إلى نموذج التنويع الاقتصادي، فتقوم ببيع منتجات رقمية أو ورقية، أو تقديم خدمات تدريبية واستشارية، أو عقد فعاليات مدفوعة بما يساعدها على تقليل الاعتماد على مصدر واحد للدخل. المهم في كل ذلك أن يكون هناك إدراك واضح لدى القائمين على المؤسسة بأن المسار الربحي ليس مجرد وسيلة تمويل بل هو جزء أساسي من استراتيجيتها العامة للبقاء والتطور.
في المقابل عندما لا تمتلك المؤسسة نموذجا ربحيا واضحا فإنها تصبح عرضة للعديد من المخاطر منها ما هو مالي بحت مثل عدم القدرة على تغطية تكاليف التشغيل ومنها ما هو متعلق بفقدان الاستقلالية حيث تلجأ بعض المؤسسات إلى مصادر تمويل مشروطة مما يضعف دورها كمؤسسات حرة ومستقلة كذلك من المخاطر التي قد تواجه المؤسسات الإعلامية غياب الاستقرار وعدم القدرة على التخطيط طويل المدى بالإضافة إلى التأثر السريع بأي تغيير في البيئة السياسية أو الاقتصادية المحيطة. وبالتالي فإن وجود نموذج ربحي مستقر لا يضمن فقط تمويل المؤسسة بل يساهم أيضا في حماية رسالتها التحريرية وقدرتها على اتخاذ قرارات مهنية دون تدخلات أو ضغوط.
لكن السؤال المهم هو: كيف يمكن للمؤسسة أن تختار النموذج الربحي المناسب؟ هنا لا توجد وصفة جاهزة تنطبق على الجميع كل مؤسسة عليها أن تجري تقييما داخليا حقيقيًا لقدراتها وإمكاناتها وطبيعة جمهورها مؤسسة تمتلك محتوى متخصصا ومتميزا، يمكنها الاعتماد على نموذج الاشتراك بينما مؤسسة أخرى تعتمد على الأخبار العاجلة والمحتوى السريع، قد يناسبها أكثر نموذج الإعلانات أو الترويج المشترك مع منصات أكبر.

هناك أيضا من يدمج بين أكثر من نموذج وفقًا للفرص المتاحة والظروف المحيطة والأهم من كل ذلك أن تكون المؤسسة مستعدة للتجربة والتعديل لأن السوق يتغير بسرعة وما ينفع اليوم قد لا يكون مجديا غدا.
في النهاية فإن المؤسسات الإعلامية التي تبحث عن البقاء وسط هذا المناخ المليء بالمخاطر يجب أن تنتقل من التفكير في البقاء القصير الأجل إلى بناء نموذج اقتصادي مستدام وامن. النماذج الربحية لم تعد رفاهية بل أصبحت ضرورة وجودية. وكلما كان النموذج الربحي مناسبا لواقع المؤسسة كلما كان أقدر على تقليل المخاطر التي تواجهها سواء كانت مالية أو مهنية أو حتى قانونية. الذكاء هنا لا يكون فقط في اختيار النموذج بل في توقيت تطبيقه وطريقة تقديمه للجمهور ومدى مرونة المؤسسة في تطويره وفقًا للتغيرات المستمرة من حولها. وهكذا يصبح النموذج الربحي ليس فقط وسيلة للتمويل بل أداة استراتيجية تمكن المؤسسة الإعلامية من الاستمرار بثبات واستقلالية في عالم لا يعرف الثبات.
كاتب المقال محمد خليفة ... مستشار التطوير المؤسسي وإدارة المخاطر