بوابة الدولة
بوابة الدولة الاخبارية

محمد خليفة يكتب : ترندات مخطط لها ... ووعي يستدرج في صمت

الكاتب الصحفي محمد خليفة
-

في الوقت الذي تتراكم فيه التحديات الاقتصادية والاجتماعية وتزداد المخاطر الحقيقية التي تهدد استقرار الأفراد والمجتمعات تتسارع أدوات الإعلام الرقمي في ضخ محتوى سطحي مستفز يعتمد على افتعال الجدل وصناعة التوتر عبر موجات متتابعة من الترندات الزائفة التي لا تحمل قيمة معرفية ولا تفتح أي نقاش حقيقي بل تخلق دوائر من الصراخ المتبادل والاتهامات والتشتيت المتعمد مما يؤدي إلى تآكل الوعي وتراجع الانتباه العام عن القضايا الجادة التي تمس الحياة اليومية للناس إذ يتم توجيه الطاقات والاهتمامات نحو قضايا ثانوية تم اختيارها بعناية لتحتل الشاشات وتسيطر على العقول وتغمر الجميع في حالة من الانفعال الزائف واللحظي الذي ينتهي بمجرد ظهور ترند جديد أكثر استفزازا وأكثر قابلية للتفاعل الرقمي.
هذا النمط المتكرر لم يعد بريئا أو عشوائيا بل أصبح يمثل آلية منهجية لصرف الانتباه العام عن أولويات مصيرية تتطلب تفكيرا هادئا وتخطيطا رشيدا فعندما يكون الاقتصاد على حافة الركود وتزداد نسب التضخم والبطالة وتتعثر قطاعات حيوية مثل الصحة والتعليم والإسكان تصبح الحاجة إلى وعي جماعي أكثر من ضرورية ولكن هذا الوعي لا يسمح له بالنمو وسط بيئة مشبعة بالتشويش الرقمي التي توظف أدوات الترفيه الخفيف والتفاهة المنظمة والمحتوى العاطفي القائم على الانقسام الاجتماعي والديني والسياسي لصناعة سحابة كثيفة تحجب الرؤية وتمنع التركيز وتبدد الطاقات الفكرية في معارك فارغة لا تقود إلى أي تغيير فعلي أو فهم أعمق للواقع.
وبينما يظن المتابع العادي أنه يمارس حقه في التفاعل الحر ويعتقد أنه جزء من النقاش العام يكون في الحقيقة مجرد أداة داخل نظام تكنولوجي محكم مصمم لإبقاء المستخدم مشغولا بالتفاصيل السطحية ومبتعدا عن المسائل التي تتطلب مشاركة واعية وحوارا صادقا بين أصحاب الرأي والمواطنين المتأثرين بالقرارات المصيرية وهنا يتجلى الفرق بين إدارة التفاعل وصناعة التشتت حيث أن إدارة التفاعل تهدف في الأصل إلى تعزيز المشاركة وبناء الوعي الجمعي أما صناعة التشتت فهدفها الأساسي هو الإلهاء وإشغال الرأي العام بقضايا هامشية .
وهذا النمط لا يقتصر على طرف معين ولا يرتبط ببلد دون آخر بل هو ظاهرة عالمية تتوسع بفضل تقنيات الذكاء الاصطناعي والتحكم بالخوارزميات وتحليل السلوك البشري مما يعني أن الصراع اليوم لم يعد فقط بين الأفكار أو البرامج أو الاتجاهات بل أصبح صراعا على الانتباه ذاته وعلى قدرة الأفراد على حماية عقولهم من الغرق في سيل من المعلومات الموجهة والمحتوى المصمم خصيصا لاستفزاز الغرائز وتحفيز الاستجابات الانفعالية التي تمنع التأمل والتفكير النقدي وتؤدي مع الوقت إلى ما يشبه الإدمان الرقمي الذي يسلب الإنسان قدرته على الفرز والتركيز والربط بين ما يحدث على الشاشة وما يحدث في واقعه الحقيقي.
ولذلك فإن الخروج من هذه الحلقة لا يكون عبر الانسحاب من الساحة أو الصمت بل عبر خلق وعي مضاد يعيد ترتيب الأولويات ويستعيد السيطرة على الانتباه ويشجع على تبني قضايا حقيقية كالمطالبة بتخطيط اقتصادي شفاف وبرامج اجتماعية عادلة واستراتيجيات تعليمية طويلة المدى وإصلاح شامل في إدارة الموارد الطبيعية وتحقيق العدالة بين الفئات وتطوير الخطاب العام ليصبح أكثر عمقا وارتباطا بحياة الناس لا مجرد صدى لترندات مصطنعة هدفها الأساسي هو استهلاك الوقت وتفريغ الطاقات في دوائر لا نهائية من الكلام والردود والتعليقات التي لا تبني شيئا ولا تفتح أي باب للتغيير.
إن المرحلة الراهنة تتطلب من كل صاحب رأي وموقع مسؤولية ومواطن مهتم أن يدرك أن المعركة الحقيقية هي معركة وعي وأن كل دقيقة يتم تضييعها في متابعة محتوى أو نقاش عقيم هي خسارة للوقت وللفرص وللمستقبل فالقضية ليست فقط في أن الترندات تشتت بل في أن التشتت تحول إلى صناعة كبرى تدار بعقول وخوارزميات وأموال وفرق تخطيط تعمل على مدار الساعة لصرف الانتباه عن القضايا التي تستحق التفكير والعمل والتخطيط.