بوابة الدولة
بوابة الدولة الاخبارية

حكايات من الواقع: ابنتي.. موطن الروح!

ابنتى موطن الروح
داليا فوزى -

إحساس بالتلاشى يجتاحنى لا أقوى عليه، أختنق برغبة تجثم على أنفاسى، تخنقنى، أستسلم لها ولا أقوى حتى على الاستغاثة، كيف يمكن للروح أن تستمد القوة والقدرة على الحياة وكل مقومات العيش من حولها تلاشت؟ هل كتبت على الأقدار حكما ثقيلا للعيش رغما عنى بلا رغبة إلا من رحيل مرتقب ألحق به بنصف قلبى الآخر هناك حيث اللا وجود؟

كانت حياتى وكل آمالى فى الدنيا لا أدري إن كانت هى ابنتى موطن الروح فى جسدى أم إنها أمى وكل حياتى، عمرها لم يتجاوز عقدا من الزمان وأبت عليها الدنيا إلا أن يتجمد عمرها عند طور الطفولة وتغادر الحياة بمرض شرس فتاك لا يرحم.

لقد نشأت وحيدة و عشت فى الدنيا بلا شقيق و مات والدى و أنا بعد صغيرة و ترملت أمى على و هى فى ريعان شبابها لم تقبل الزواج من رجل آخر غير والدى من أجلى، قرر أن تهبنى حياتها و عمرها كله و عندما تخرجت فى الجامعة و ارتبطت عادفيا بزميل لى فى نفس الكلية بلغت بها السعادة حد النهاية و اكتملت رسالتها و فرحة عمرها معى فى يوم زفافى و لكنها لم تبقى طويلا بعدها و كأنها كانت على موعد مع أبى حبيب عمرها، لحقت به ما أن تيقنت من اكتمال رسالتها و تسليم الأمانة إلى صاحبها و حقا كان زوجى و حبيبى أهلا للأمانة فقد كان يخشى الله فى عشرتى و يترفق بى و يهبنى خبا عظيما و بادلته السعادة و الحياة الهانئة الهادئة حتى من الله علينا بابنتنا الوحيدة ساعتها شعرت أن قلبى ينشطر إلى نصفين نصفه لحبيبى و زوجى و النصف الآخر لابنتى أعيش لهما و بهما و لا مطلب لى فى الدنيا غير إسعادهما و لكن بقى خوف دفين يسكن قلبى بمرارة إحساسها بعيد فى قلب الماضى عندما ترملت أمى فأنا مثلها أخلصت حياتى لزوجى و ابنتى تماما كما هى كانت و تهاجمنى وساوس أنى لست أكثر حظا منها و قد أفقد حب عمرى مثلها .. !

و ظل هاجس الفقد المقيت هذا يحاصرنى ويقض مضجعى سنوات حتى جاء موعد الامتحان العظيم ومرضت ابنتى، مرضا أعجزها وأعجزنى، كنت أخشى على أبيها الرحيل أشقت الأقدار قلبى بمرضها وعبثا حاولنا إنقاذها فما بين التردد على المستشفيات والطرق على أبواب الأطباء طلبا للشفاء كانت رحمة الله بها أكبر فقد ترفق بها من الألم المبرح لا يغادرها ليلا أو نهارا، رحلت كى تستريح تلك الراحة الأبدية التى لا لقاء بعدها.

وبقيت أنا جسد بلا روح فقد رحل نصف قلبى لا أدر من أمر نفسي شيئا لا أستطيع التوافق مع ذلك الواقع المر أعجز عن التصديق أنى لن أراها ثانية، يأكل الفراق عقلى ونفسي حتى أنى بقيت فى المستشفى فترة تحت التأهيل النفسى، قد يكون الأطباء نجحوا فى استعادتي من غيبوبة الحزن للحياة ولكنى لست أنا من كانت أما أنا الآن شخص آخر خاوى، هش، ضعيف، لا حيلة لى إلا الانتظار فى تجمد من الأحاسيس والمشاعر حتى ألحق بابنتي.

أرى زوجى لا يفارقنى بحبه وحنانه ورعايته لى ولكنى لا أقوى أن أقدم له شيئا غير أنى أعيش على إحساسى أنه مازال إلى جوارى ولم تأكله الصدمة كما أكلتنى، إيمانه أقوى منى وصبره تجاوز حدود الفراق وآلامه حتى إنه كان يواسينى بكلمات مفعمة بالأمل فى غد قادم أفضل وأن عوض الله قريب، لم تكن كلماته غبر طبطبة تزيد من ألمي فكيف للأمل ينزرع فى قلب جدرانه بور جفت فيه ينابيع الحياة؟

أشفقت عليه منى وطلبت منه أن يتزوج ولا يشغل باله بى فإنى راحله عنه والدنيا ولكن فى كل مرة أحدثه فيها ينظر إلى بنظرة هادئة مستقرة وابتسامة مشرقة على وجهه ويقول لى إن ربه وعده الجنة وشربة ماء من بد ابنتنا فيها و أنى لا يجب أن أن أحزن فقد استرد الخالق أمانته ولعله يعوضنا يوما بالخلف الصالح بإذنه وقدرته.

أكتب لك وقد أيقنت تماما أنى غير قادرة على التحكم فى إرادتى بالتعايش والتسليم بالأمر الواقع ولست أدر إلى أين يصل بى ما أنا فيه، هل هو الجنون؟ أم أن ما أنا فيه ليس إلا علامات النهاية المرتقبة.

م. خ

ليس هناك أقسى من أن يجلد الإنسان نفسه ويتلذذ في فناء روحه استسلاما ليأس مطبق سرعان ما يقضى عليه فترفقى بروحك الثكلى يا ابنتى فمن منا يملك من أمر نفسه شيئا و إن كانت أرواحنا نفسها و ليست أرواح أولادنا فقط أمانة تستحق خالقها إن أرادها أينما شاء و لست أقلل من حجم اللوعة و عذابات الفراق و لكن تتزايد أحاسيس الألم دائما ز تتضخم عندما تنفصل الذات عن مفاهيم الإيمان و اليقين الإلهى المترسخة فى وعينا و ضمائرنا و أحسبك إن شاء الله من عباد الله الصابرين الموقنين بحقيقة الخلق و أمانة الروح و لعل زوجك لم يغادره ذلك الإحساس الإيماني فكان صابرا محتسبا و ما بك لا يقل عنه غير أن قلب الأم أكثر تألما لفقد "الضنا" و ذلك طبيعى إن لم يستمر التمادى فيه و من هنا تمسكى بطوق النجاة مما أنت فيه فى قول الله تعالى "قل يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله " و ثقى إيمانا و احتسابا فى وعد الله بالسكينة تسكن قلبك "ألا بذكر الله تطمئن القلوب" .

و كما قال لك زوجك و هو نعم الرفيق الناصح لك فى الحياة و الذى لا يقل ألمه فى فقد طفلته عنك عند الله العوض و الأمل فيه كبير و قادم لا محالة فلا تفقدى يقينك يا ابنتي و احتسبى و سيرزقك الله من النبت الصالح إن شاء الله ما يثلج صدرك و يكفئ نيران الفراق فى قلبك فأنت مازلتى صغيرة و الحياة من أمامك قادمة بكل خير و إعلمى ان منطق الحياة التى جبلت عليه منذ بدء الخليقة يكمن فى سر تلاشى الألم مع الوقت فأى مصيبة أيا ما كانت كبيرة أو عظيمة تصغر تدريجيا مع الوقت حتى تتلاشى و هذه نعمة من المولى عز و جل لولاها ما تحمل أحد ما يعترض حياته من صدمات و لمتنا و راء من نحب بعد موتهم.

اقتربى يا ابنتى من ربك واستلهمى من آياته في كتابه الكريم ما يقشع الظلمة من قلبك وصدق جل علاه في قوله تعالى في سورة يوسف ) وَلَا تَيْأَسُوا مِنْ رَوْحِ اللَّهِ ۖ إِنَّهُ لَا يَيْأَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ) (يوسف: 87) وقوله في سورة الزمر ) قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَىٰ أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ ۚ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا) (الزمر: 53) وقوله (وَلَا تَيْأَسُوا مِنْ رَوْحِ اللَّهِ ۖ إِنَّهُ لَا يَيْأَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ) (سورة يوسف: 87)

ومن هذه الآيات يتبيّن لنا أن اليأس والقنوط من صفات من سيطر عليهم الضلال وضعف إيمانهم فالمؤمن مأمور بالرجاء والصبر وعدم القنوط من رحمة الله مهما اشتدت الظروف.