بوابة الدولة
بوابة الدولة الاخبارية

الكاتب الصحفى د. حربى الخولى يكتب : عم أنس .. وأصل ” ودن من طين و ودن من عجين ” تحقيق ودراسة

الكاتب الصحفى د. حربى الخولى
-

عندما تسمع المثل " ودن من طين وودن من عجين،" وهو يضرب لمن يتلهون في الحياة دون التنبه أو الاستماع للآخرين، وتريد أن تبحث عن أصله تجد العجب العجاب، سواء في بعض الكتب المحدثة عن الأمثال أو مواقع التواصل الاجتماعي، وكلها تدور حول ان أصل المثل إما في إحدى قرى الصعيد قديما حيث علم أهل القرية بوجود كنز في أعلى الجبال، وحاولوا الوصول إليه لكنهم فشلوا بسبب هلاوس سمعية تنتابهم كلعنة تحفظ الكنز، فيستمعون صرخات تصم الأذان فلا يستطيعون الوصول للكنز، لكن فتاة من أهل القرية ذكية وضعت بأحد أذنيها عجين، ولكن الأذن الأخرى تركتها فارغة حتى وصلت إلى المكان فوجدت الطين فطرأت عليها فكرة أن تضع بالأخرى الطين ( وطبعا لا أعلم لماذا لم تضع العجين في الأذنين من الأساس، أو تأخذ قطعة من العجين معها لذلك الغرض ) وعلى ذلك أصبحت إحداهما بها طين والأخرى من عجين، وفعلا ذهبت فى طريق رحلتها وحصلت على الكنز من الذهب والفضة، فسألها الجميع عن سر حصولها على الكنز فقالت عملت "ودن من طين وودن من عجين"( أمر مضحك ولا شك ) . أو تجد أصل المثل أن شابا كان يضع طبقة من الطين فوق سطح منزله الريفي، فرشقت في إحدى أذنيه رشقة من الطين فلم يعد يسمع، ولما كان يعاني من كثرة تحكمات وأوامر والده فأراد أن يصم أذنه الأخرى، فوجد والدته تعجن فأخذ قطعة من العجين فوضعها في أذنه الثانية، فلم يعد تضايقه تحكمات والده لأنه لا يسمعها ( أمر مضحك، وكأن الشاب اكتشف أن الطين في الاذن لا يجعلها تسمع فزاد من عبقريته الكشفية بأن اكتشف أن العجين كذلك لا يجعلها تسمع، ولا ندري لماذا لم يحشو أذنه الأخرى بالطين وهو على السطح بجوار الطين، وهل تركه أبوه وهو يأمره ولا يستجيب أم صعد إليه بالعصا فأناله ما استحق من ضربات ولعنات ) .
وحقيقة المثل ترجع للجاهلية، وتحديدا في قبيلة خَوْلاَن باليمن، حيث كان الكثير يعبدون الأصنام – مثلهم مثل عرب الجاهلية - ويصنعونها من كل شيء حتى من الأشياء التافهة، يصور لنا بعض ذلك أبو رجاء العطاردي- رضي الله عنه- فيقول كما في صحيح البخاري وغيره "كُنَّا نَعْبُدُ الْحَجَرَ فَإِذَا وَجَدْنَا حَجَرًا هُوَ أَخْيَرُ مِنْهُ أَلْقَيْنَاهُ وَأَخَذْنَا الْآخَرَ، فَإِذَا لَمْ نَجِدْ حَجَرًا جَمَعْنَا جُثْوَةً (كومة أو كثبة) مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ جِئْنَا بِالشَّاةِ فَحَلَبْنَاهُ عَلَيْهِ ثُمَّ طُفْنَا بِهِ.." ونقل الحافظ ابن حجر في الفتح عن القرطبي قوله " إن أهل الجاهلية كانوا يعملون الأصنام من كل شيء حتى أن بعضهم عمل صنمه من عجوة (تمر) ثم جاع فأكله" . وتُروى قصة مشهورة عن قبيلة بني حنيفة التي صنعت صنمًا من الحيس – خليط من التمر والسمن – عبدته، لكنها عندما واجهت مجاعة، أكلت صنمها الذي صنعته بيدها.
وقال ابن إسحاق في سيرته، في قسم المبتدأ وهو تاريخ العصر الجاهلي منذ الخليقة: " وكان لخولان بأرضهم صنم يقال له: عم أنس، يقسمون له من أنعامهم وحروثهم قسما بينه وبين الله فيما يزعمون، فما دخل فى حق عم أنس من حق الله الذى قسموه له تركوه له وما دخل فى حق الله من حق عم أنس ردوه عليه، وفيهم أنزل الله: { وَجَعَلُوا لِلَّهِ مِمَّا ذَرَأَ مِنَ الْحَرْثِ وَالْأَنْعَامِ نَصِيبا }" . وعند حضور وفد خولان إلى النبي صلى الله عليه وسلم، سألهم عن مصيره، فأخبروه بأنهم هدموه بعد إسلامهم.
وكان صانع الأصنام يصنع للناس خاصة الفقراء من أهل القبيلة أصناما صغيرة على هيئة عم أنس، وهذه الأصنام من طين، وكان يجعل لعم أنس أذن واحدة كبيرة هي الأذن اليمنى، لاعتقادهم بأن الأذن اليمنى هي المكرمة والتي تسمع الحاجات وتجيب ما يريده الإنسان، أما الأذن اليسرى فتسمع ولكنها لا تميز بين الشر والخير وفي الغالب تنفذ الشر فقط، لذلك لم يكونوا يصنعون له أذن يسرى حتى لا يسمع شر الناس، وقد عثر على تماثيل قديمة في اليمن والسعودية بأذن واحدة فقط، وكانت القبيلة والكثير من العرب تمدح الأذن اليمنى وتذم اليسرى؛ لذا عندما أراد المنافقون أذى النبي صلى الله عليه وسلم قالوا هو أذن؛ أي أذن واحدة يسرى تسمع دون تمييز الصدق من الكذب ( وَمِنْهُمُ الَّذِينَ يُؤْذُونَ النَّبِيَّ وَيَقُولُونَ هُوَ أُذُنٌ..) . ولما كان صنم عم أنس له أذن واحدة يمنى كبيرة من الطين في حجم الرغيف الكبير للدلالة على حكمته وقوة سمعه، فقام صانع الصنم لزيادة الربح من كثرة البيع بصنع أذن أخرى على هيئة رغيف كبير من عجين تنضجه الشمس المحرقة، فيكون نصيب الناس من عم أنس أذنه التي من العجين وقت الجوع يقتاتون بها، فيكون الشراء للعبادة والطعام في الوقت ذاته؛ مما يجعله منتجا رائجا، فإذا بدأ صانع جديد في صناعة عم أنس قال الناس له " أعمل لنا أذن من طين وأخرى من عجين "، فصارت مثلا لما تختلط فيه الأشياء بين الضرر والنفع الوقتي .
كاتب المقال الكاتب الصحفى الدكتور حربى الخولى