الفن والأدب والهوية المصرية.. سيد درويش.. أيقونة النهضة الموسيقية وذاكرة الوطن

لا شك أن الهوية المصرية تتمتع بخصوصية فريدة، فهي مزيج من الحضارة العريقة والروح الشعبية المتجددة. عبر العصور، نجح المصريون في الحفاظ على لغتهم العربية، بل وتصديرها إلى غيرهم، حتى إن المستعمر نفسه تعلمها دون أن يفقد المصريون أصالتهم. وفي القرن العشرين، لعبت الثقافة المصرية دورًا محوريًا في إعادة بلدان المغرب العربي إلى حضن العربية من خلال الأغنية والسينما والأدب، لتظل مصر رائدة في تشكيل وجدان الأمة.
ومع ذلك، تطل علينا بين الحين والآخر فتاوى تُضيّق على الفن والموسيقى، فتبدو وكأنها تُصادر الهوية وتُضعف لغة القرآن نفسها. يتقاطع هذا مع مخاطر العولمة وطمس الهوية، حيث تنتشر لغة "الفرانكو آراب" في أوساط الشباب، وتظهر في الإعلانات والأعمال الفنية، بما يهدد مكانة العربية ويفقدها بريقها. وهنا يبرز دور الدولة ومؤسساتها الثقافية في إطلاق المبادرات لحماية اللغة والهوية، ومنها اعتماد يوم للموسيقى المصرية في 15 سبتمبر، ذكرى ميلاد فنان الشعب سيد درويش.
سيد درويش.. رائد النهضة الموسيقية
وُلد سيد درويش (1892–1923) في حي كوم الدكة بالإسكندرية، وسط أسرة بسيطة، وتلقى علومه الأولى في الكتّاب حيث حفظ القرآن وتعلم المقامات. بدأ حياته عاملاً بسيطًا، لكنه وجد في الغناء رسالته الكبرى، فعمل مع الفرق المسرحية المتجولة وسافر إلى الشام، وهناك انفتح على ألوان موسيقية جديدة عاد بها ليصنع ثورته الفنية في مصر.
أعاد سيد درويش صياغة الموسيقى الشعبية لتصبح مرآةً للمجتمع المصري، مستلهمًا من حياة الفلاحين والعمال والصيادين. قدّم أغانٍ قصيرة وسهلة الحفظ، لكنها عميقة المعنى مثل: الحلوة دي، شد الحزام، والشيالين. كما لحّن أكثر من 30 مسرحية غنائية جسدت نبض الشارع وأحلامه.
صوت الثورة والحرية
مع ثورة 1919، تحولت ألحان سيد درويش إلى شعارات جماهيرية، فكانت أغنية قوم يا مصري دعوة صريحة للنضال الوطني، بينما أصبح لحنه بلادي بلادي هو النشيد الوطني لمصر حتى اليوم. لقد استخدم الفن أداة للتحريض السياسي والاجتماعي، فكان بحق "صوت الشعب" ولسان حاله.
إرث يتجدد
رغم رحيله المبكر وهو في الحادية والثلاثين، ترك سيد درويش أكثر من 300 لحن أثّر في كبار الموسيقيين مثل محمد عبد الوهاب، رياض السنباطي، زكريا أحمد، ومحمد القصبجي. ويجمع النقاد على أنه مهّد لنهضة موسيقية عربية حديثة، راسخة الجذور في الهوية المصرية، ومعبرة عن اللغة والثقافة معًا.
تحية للهوية والموسيقى
اليوم، ونحن نحتفي بيوم الموسيقى المصرية في ذكرى ميلاد فنان الشعب، نستعيد رسالة سيد درويش: أن الفن ليس ترفًا، بل هو قوة ناعمة تحافظ على اللغة والهوية وتبني الوعي الوطني. إنها مناسبة لتجديد الدعوة إلى حماية لغتنا وثقافتنا من موجات العولمة والتغريب، وإلى جعل الموسيقى أداة للتنوير والنهضة