بوابة الدولة
بوابة الدولة الاخبارية

الدكتور النائب خالد قنديل يكتب : القرآن وصناعة التريند

النائب الدكتور خالد قنديل
-

لم أكن أنوي التعليق، ولم أبحث يومًا عن الاصطفاف في معارك الكلام، لكنني وجدت نفسي وبكل صدق في موقف لا يُحسد عليه، بعدما انهالت علي المكالمات والرسائل من عدد كبير من الأصدقاء، إعلاميين وكتابًا ومثقفين كبار، يسألون ويستوضحون ويطلبون رأيًا فيما قيل على لسان السيد رئيس حزب الوفد، في أحد البرامج الحوارية، بشأن ورود اسم "الوفد" في القرآن الكريم، لم يكن السؤال عابرًا، ولا الاستفسار سطحيًا، فقد كان وراء كل اتصال قلق حقيقي من تداخل المقدس بالسياسي، ومن استدعاء النص الديني في لحظة إعلامية أثارت الجدل، وربما تركت أثرًا غير مقصود في وعي الناس.
وجدت نفسي في حرج حقيقي، ليس تجاه ما قيل، بل تجاه حجم الانشغال والاهتمام، وتجاه ما حملته تلك الاتصالات من تساؤلات تحمل في طياتها محبة وغيرة ومسؤولية، وهو ما جعلني أُراجع نفسي وأقرر أن أكتب، وها أنا أكتب، لا انتقادًا لأحد، ولا دفاعًا عن أحد، بل من موقع المفكر الذي ينتمي لهذا الحزب العريق بكل فخر، ويعتز بتاريخه، ويحترم كل من فيه، وعلى رأسهم السيد رئيس الحزب. أكتب فقط من منطلق أخلاقي وفكري، دفاعًا عن المعنى، وحرصًا على المسافة الواجبة بين ما هو ديني وما هو سياسي، بين ما هو مقدّس وما هو قابل للتأويل، هذا المقال إذن، ليس خصومة، ولا اصطفافًا، بل محاولة للفهم، ومساهمة متواضعة في تأمل ما جرى، عسى أن نعيد معًا الاعتبار للمعنى، وللصدق، وللخطاب المسؤول.
ما حدث في ظهور الدكتور عبد السند يمامة، رئيس حزب الوفد، في برنامج "حقائق وأسرار" مع الإعلامي مصطفى بكري، ليس مجرد تصريح عابر، بل هو مشهد دقيق يجسد واحدة من أعمق أزمات الخطاب العام في العالم العربي: "ابتذال المقدسات في المساحات الإعلامية، واختزال القيم الدينية في جمل تريندية قابلة للتداول السريع"، قال رئيس الحزب – في ثقة بالغة – إن "اسم حزب الوفد ورد في القرآن الكريم"، مستشهدًا بالآية الكريمة: "يَوْمَ نَحْشر الْمتَقينَ إلَى الرَحْمَٰن وَفْدًا" (مريم: 85)
ظاهريًا، بدا التصريح وكأنه محاولة لتجميل صورة الحزب عبر استدعاء دلالة قرآنية إيجابية. لكن في عمقه، لم يكن ذلك سوى محاولة محسوبة لاختراق المجال العام بجملة تستفز الحس الديني، وتضمن إثارة الجدل، وتدفع بالضيف والحزب إلى صدارة المشهد الرقمي والإعلامي، التصريح لم يأت مصادفة. بل أطلق في مساحة إعلامية تملك جمهورًا واسعًا، في توقيت سياسي خاص، وبعبارة تضمن الاستفزاز، لقد صيغت الجملة كأداة "صناعة تريند" بامتياز- التصريح = ديني يوقظ الجدل - المنصة = إعلام تلفزيوني مباشر، سريع التأثير- الجمهور = منقسم سلفًا، مهيأ للجدال والانفعال - والنتيجة = انتشار، انفعال، تداول، ثم توضيح لاحق بارد لا يلغي الأثر.
هكذا يدار الخطاب في زمن التسويق الرمزي:
1. إطلاق عبارة مستفزة - 2. صناعة الجدل والانقسام - 3. تداول مكثف للمقطع -4. ثم تراجع تكتيكي عبر توضيح ملطف.
5. وفي النهاية: "بقينا في الصورة"!
لقد أصبحت الآية الكريمة أداة لخلق محتوى، تفصل من سياقها، وتسحب من أفقها الأخلاقي والروحي العميق، لتختزل في مشهد إعلامي لا يختلف كثيرًا عما يفعله مؤثرو السوشيال ميديا. فالجميع بات محكومًا بمنطق "التريند"، سواء كان إنفلونسر يرقص، أو سياسي يقتبس من القرآن.
ما زاد مرارة المشهد، أن هذا التصريح مر بلا أي مساءلة أو استيضاح من مقدم البرنامج، وهو إعلامي مخضرم يفترض به أن يدرك حساسية استدعاء النص القرآني في سياق سياسي حزبي، لكنه ترك الضيف يتحدث دون أدنى تدقيق، وكأن ما قيل فرصة ذهبية لرفع نسب المشاهدة، لا لحظة تستحق التأمل أو التحفظ.
فهل كان الإعلام هنا ناقلًا للحدث أم شريكًا في صناعته؟ وهل سكت بدافع الحياد، أم أنه بات جزءًا من الآلة التي تنتج التريند وتعيد تدويره؟، ما يؤلم حقًا في هذا المشهد ليس فقط استدعاء لفظ قرآني في غير محله، بل ما يكشفه ذلك من خلل في علاقة السياسة بالدين، والإعلام بالحقيقة، والجمهور بالمعنى.
وحين تتحول البرامج إلى ساحة جدل بلا ضابط، نخسر المعنى لصالح الترند.
وحين يصبح الغرض من التصريح هو الوصول إلى الـ"تريند"، نصبح أمام مشهد تسويقي لا فكري، سطحي لا عميق، وظرفي لا ملزم.
وما اكتبه الآن ليس حزنًا على حزب، ولا على شخص، بل على الطريقة التي يستخدم بها القرآن في سوق الكلمات السياسية، فكتاب الله ليس وسيلة لتلميع، ولا أداة للتمرير، ولا جملة يستشهد بها ثم تشرح لاحقًا بنصف اعتذار، الدين ليس زينة تعلق على أكتاف الشعارات، بل مشروع قيمي عميق يحتكم إليه، لا يتاجر به، والسياسة التي لا تملك ما يكفي من المشروعية لتقف على قدميها دون استدعاء المقدسات، هي سياسة مهزوزة، فقيرة في مضمونها، أما الإعلام الذي لا يميز بين كلمة صادقة وكلمة "مدروسة للتفاعل"، فقد تخلى عن مهمته الأساسية.
كلمة أخيرة - لا تبيعوا لنا الدين في علب حزبية - ولا تفرغوا النصوص من قدسيتها لتملؤوها بشعاراتكم - فقد عرفنا القرآن قبل الأحزاب، وسنرجع إليه بعدها.

كاتب المقال الدكتور خالد قنديل كاتب ومفكر مصري، عضو مجلس الشيوخ المصري ونائب رئيس حزب الوفد وكخبير دوائي. في مجال تصنيع الأدوية