بوابة الدولة
بوابة الدولة الاخبارية

حكايات قبل الموت.. خطيئة ورثة الشعراوي

حكايات قبل الموت.. خطيئة ورثة الشعراوي
مها عبد الفتاح -

ظلام .. صمت .. دخان .. ذلك المزيج المربك المريب، الذي يعد المادة الخام والفاعلة في نفس الوقت للتوتر والغموض والإثارة، وأيضًا الرعب، كان هذا الثالوث هو الآمر الناهي في غرفة مكتب آل الشعراوي، لا يجرؤ على تعكير صفو سيادته سوى بضع شمعات ينتهك سكونهن تيار هواء مجهول المصدر.

ولعل الظلام نفسه الذي ظن أنه يحكم تلك الغرفة بل منزل الشعراوي بأكمله -على غير العادة-، لم يكن ليعلم أنه قد فُرض بأوامر عليا على أبناء الشعراوي الستة المجتمعين الآن في حضرة هذا الظلام يتربص كل منهم بالآخر، ولا يقوى أي منهم سوى على نفث بعض الدخان من بين شفتيه، في حالة من الترقب والقلق القاتلين، وفجأة قطع حبل الصمت صوت جرس الباب، يُبشر بقدوم ضيف طال انتظاره، إنه الشيخ رأفت، الآمر الناهي الحقيقي في تلك الليلة العصيبة، ليلة حل لغز استعصى حله واستطال غموضه، وما كان له من كاشف سوى الشيخ رأفت بقدراته المشهودة والمرموقة.

البداية

كان الشيخ الشعراوي -كما كان يحلو له أن يناديه الناس- واحد من أباطرة الاتجار بالآثار في صعيد مصر، اسمه الشعراوي وكان يلبس حلة الدين، كما كان يحلو له أن يتشبه بالعلامة الشيخ محمد متولي الشعراوي في ملبسه وحركاته ليسرق قبسًا من وقاره وحسن سيرته ولكن هيهات بين هذا وذاك، مات صاحبنا الشيخ الشعراوي فجأة منذ شهور بدون سابق مرض أو إنذار، ولم يترك لأولاده الستة من ثروته الطائلة إلا بعض قشور، وضعها جميعا في خزينة غرفة المكتب التي يجتمعون بها الآن، ولكنه ترك معها سرًا عظيمًا، ينطوي حله على ثروته الطائلة بل أضعافها.

فقد علم أولاده من مخطوطة وجدوها في الخزينة أنه دفن معظم ثروته في مقبرة أثرية تحتوي على كنز أثري عظيم، ولا يعلم مكانها إلا الشعراوي نفسه، وكان على وشك إخبار أولاده بمكانها لولا أن الموت حال بينه وبين ذلك، ولم تكن حفنة الأموال التي وجدها أولاده السبعة بخزينة مكتبه -علي كبرها- لتملأ فراغ أعينهم، ولم تكن هناك من وسيلة لكشف سر تلك المقبرة والوصول إليها بعد أن دفن سرها مع جسد أبيهم تحت التراب، فاجتمع الستة من أبناء الشعراوي وأوكلوا حل لغز هذه المقبرة لكبيرهم عبدالناصر، الذي أتى لهم بعد بحث عميق بالحل الذي جعلهم يجتمعون الآن من جديد، فقد قال له واحد من أصحابه المقربين يدعى أمين: إن كان الجسد قد ووري الثرى، فالروح تبقى ولا تروح، ودله على الخبير الذي لا يفوقه أحد في استحضار الأرواح وإخضاعها.

الجلسة

كانت أوامر وتوجيهات الشيخ رأفت حادة وواضحة، على الأبناء الستة الاجتماع في أكثر أماكن الميت تواجدًا في حياته، وفي النصف الثاني من الليل، في الجمعة الأخيرة من الشهر القمري، حيث لا قمر في السماء، لا هواتف نقالة، ظلام لا يقشعه إلا ضوء الشموع الخافت، إحضار جزء من كفن الميت، مما جعل أحد الأبناء ينبش قبر أبيه لإحضار هذا الجزء، وتكفل الشيخ رأفت بإحضار باقي الأدوات، بالإضافة إلى الوسيط.

وبعد طول انتظار، دخل الشيخ رأفت معه رجل يبدو من هيأته أنه من المشردين المجاذيب الذين يهيمون في الأرض بلا مأوى ولا هدف، وكان يدعى مصطفى، وينادونه الشيخ مصطفى الأخرس، وكانت كنية الأخرس مفهومة السبب ولكن ولا أعلم السبب وراء أطلاق كنية شيخ على كل من هب ودب، وبأي حال من الأحوال دخل الشيخ رأفت (الساحر) بصحبة الشيخ مصطفى (المجذوب) لتحضير روح الشيخ الشعراوي (تاجر الآثار).

أمر الشيخ رأفت بإخلاء منتصف المكتب تمامًا ورسم على الأرض نجمة سداسية، وجعل على كل رأس من النجمة كرسي، جلس عليها الأبناء الستة وفي وسط النجمة وضع كرسي جلس عليه الوسيط الشيخ مصطفى وأمامه منضدة صغيرة، عليها دورق به ماء أمر بإحضاره ومبخرة وبعض زيوت عطرية وستة أكواب كان قد أحضرها معه.

نثر الشيخ رأفت وهو يتمتم بعبارات غير مفهومة، بعضًا من زيوته على المبخرة فتصاعدت منها أدخنة تغشي الحضور جميعا بثقلها ورائحتها النفاذة، ثم وضع قطعة الكفن على رأس الشيخ مصطفى، وصب من الماء في الأكواب ووزعها على الأبناء الستة ليشربوا منها، ثم نثر قليلًا من تلك المياه على أرض الغرفة وبعضًا على وجه الشيخ مصطفى والذي فجأة وبدون أي مقدمات بدأ يصرخ وينتفض كمن رش بحمض الكبريتيك أو ماء النار كان يدعونه.

الروح

فزع الحضور جميعًا لصرخات الشيخ مصطفى المتصاعدة، إلا الشيخ رأفت، الذي كان يتحرك بخفة وثقة في وسط النجمة وتعالى بتكرار بضع كلمات متتاليات غير مفهومة، معها تحول صراخ الشيخ مصطفى لخوار مكتوم يشبه خوار البهائم، هنا قال بعنف: أمرتك باسم الله الأعظم وبحروف القرآن ومفاتح ملوك الجان أن تحضر روح الشعراوي ابن محسنة في الحال.

هنا وعلى الرغم أن جميع الأبواب كانت موصودة اقتحمت الغرفة لفحة هواء باردة مجهولة المصدر تلاعبت بضوء الشموع التي كانت تلفظ أنفاسها الأخيرة، ووسط دهشة بل فزع الأبناء الستة، انفكت العقد عن لسان الشيخ مصطفى الأخرس، وتكلم غصبًا بصوت أجش ولسان تثقله الجبال يقول: أنا هسخطك يا رأفت، يا خاين العهد، يا كافر .. يا كافر .. أنا هسخطك.

فصرخ الشيخ رأفت: تسخط مين يا خسيس، اسمع الكلام يا خادم الجن وإلا هحرقك، حضر روح الشعراوي ابن محسنة وإلا هحرقك.

فرد الشيخ مصطفى بصوت يشبه العواء: تحرقني يا كافر .. بعد خدمتي ليك طول عمرك تحرقني يا نجس، أنا هموتك وأموت كل اللي معاك واتحرق يا نجس.

فجأة اندفعت الأبواب وكأن هناك من حطمها من الخارج بصوت ظنه من في الغرفة صوت انفجار عظيم، واقتحمت الغرفة لفحة هواء عاتية انطفأت على إثرها الشموع التي كانت تحتضر، وفجأة ساد الظلام والصمت والدخان من جديد.

أمين

استمر الصمت والظلام للحظات مرت كالسنين، وفجأة أضاءت الأنوار في غرفة المكتب وكسر حاجز الصمت صوت غريب، كان يخاطب الشيخ رأفت بحزم: أنت أتأخرت كده ليه يا زفت أنت.

فرد رأفت: مش لازم كنا نحبك الدور يا أمين بيه، على ما المشروب يجيب مفعول.

فقال أمين: والمشروب اشتغل ولا مغشوش؟

فقال رأفت: اشتغل يا باشا زي الفل دا أنا ناقع السم في الكوبايات من يومين، وصاحبك وأخواته مرميين على الأرض أهم وزمانهم مع أبوهم بيتحاسبوا دلوقتي.

فقال أمين: يغوروا في داهية، ما كنش مكفيهم الملايين والدهب اللي في الخزنة دي وكانوا طمعانين في المقبرة، يسألوا بقا أبوهم عنها هناك، شوف يا مصطفى بسرعة مفتاح الخزنة مع مين فيهم وطلع الفلوس والدهب اللي فيها خلينا ناخدهم ونمشي، ونظف يا رأفت الدنيا كويس وماتسيبش أي أثر لحد فينا.