بوابة الدولة
بوابة الدولة الاخبارية

نقلا عن وثائقيات كتاب فاروق والاخوان..

بداية تأسيس الجماعة بين أطماع السلطة وأوهام الخلافة

الاخوان
كتب احمد الشخيبى -

"مع تصاعد وتيرة الحرب العالمية الثانية، وفي بداية أربعينيات القرن الماضي أسس البنا، الجهاز السري أو "التنظيم الخاص"، ويذكر محمود عبدالحليم- شكل البدايات الأولى لتشكيله قائلًا: كان ذلك في عام ١٩٤٠م حيث دعا حسن البنا خمسة من الإخوان هم صالح عشماوي، وحسين كمال الدين، وحامد شربت، وعبدالعزيز أحمد، ومحمود عبدالحليم، وعرض علينا الدواعى التى رأها تقتضى الاستعداد وإنشاء نظام خاص تواجه الدعوة به مسئولياتها في المستقبل".

يكمل عبد الحليم: "اقتنعنا برأيه فتكوّن منا نحن الخمسة قيادة هذا النظام، وعهد إلينا بإنشائه وتنظيمه وتدريبه على أن يكون على أساس من العسكرية الإسلامية القوية النظيفة، وأن يحاط بالسرية المطلقة بحيث لا يعرف عنه أحد شيئًا إلا أعضاؤه، وعلى أن يكون تمويله من جيوب أعضائه لأن علامة الجد فيمن تقدم للتضحية بروحه، أن يضحي قبلها بماله، كما تم ترتيب قيادة النظام بحيث يكون صالح عشماوي الأول باعتباره المتفرع الكامل للعمل، ويليه حسين كمال الدين، فمحمود عبدالحليم، فحامد شربت، وأخيرًا عبدالعزيز أحمد.

التقسيم الداخلي

التقسيم الداخلي للأفراد المرشحين للانضمام للجهاز، كانت تتم عبر مجموعات كل مجموعة تتكون من خمسة أشخاص، و هناك ثلاث مراحل يمر بها العضو داخل النظام الخاص وتشمل :

- دراسات في الوطنية والنواحى الدينية.

- دراسات خاصة باستعمال السلاح.

- دراسات في القانون والإسعافات الأولية.

ثم يؤدى العضو امتحانات في هذه الدراسات وكان التدريب على السلاح يتم في المناطق الصحراوية في أماكن عديدة في أنحاء البلاد.

جهاز مخابراتى

جهزت الجماعة النظام الخاص بجهاز مخابراتي، على جانب كبير من المهارة حيث تكون القيادة على علم بكل صغيرة وكبيرة عن خصومها وأصدقائها على السواء، وكان نظام جهاز المخابرات واسعًا ليشمل جميع الأحزاب السياسية المصرية الموجودة في ذلك الحين: الوفد والسعديين والأحرار الدستوريين، والكتلة الوفدية، والحزب الوطنى مصر الفتاة، وحزب العمل، وحزب الفلاح الاشتراكي، وجبهة مصر، والشبان المسلمين، والشبان المسيحيين، والجماعات الشيوعية، فضلًا عن النقابات والجمعيات المختلفة.

وكانت هناك مخابرات في كل وزارة، وفى الجامعة والأزهر والمدارس، وكانت تقدم تقارير عن القائمين بالأعمال في أقسام البوليس وقواتها، والمحال الصناعية اليهودية والأجنبية والمصرية.

ماهر والنقراشي

كثيرًا ما كنت أتأمل في قراءاتي، تلك العلاقة الغريبة بين أحمد ماهر ومحمود فهمي النقراشي، فكلاهما كان زعيمًا بكل ما تحويه الكلمة من معان، هما من أبناء الثورة المصرية عام 1919، اتفقا في كل شيء تقريبًا، وكلاهما لقي مصرعه على يد كتائب الإخوان وبأمر من حسن البنا شخصيًا!

قصة جديرة بالتوقف في الصداقة والوفاء والموت أيضًا. قصة جديرة بوضع علامات وخطوط عديدة تحت جمل وفقرات فيها. كلاهما دولة في حد ذاته قبل أن يحمل لقب "صاحب الدولة"، كلاهما شارك في تأسيس جمعيات سرية في قمة العنفوان الثوري بعد عام 1919.. وكلاهما كان على علم بمخططات الجماعة وتطلعاتها منذ نشأتها إلى أن وقع الصدام الحقيقي على الأرض!

لعل أقرب أوجه الشبه بين أحمد ماهر ومحمود فهمي النقراشى في الوطنية والسياسة والصداقة هى أوجه الشبه بين عباس العقاد وإبراهيم المازني في الشعر والأدب والفكر وما كان بينهما من تكامل.

رفيقا الموت

ما كان بين "ماهر والنقراشي" - كما يقول الكاتب محمد السوادي- بدأ بالموت الذى لم يقع، وظل على قوته حتى الموت الذى وقع، وورث أحدهما الآخر في كل شىء، بدءًا من تضامنهما في اغتيال أعداء الوطن أثناء ثورة 1919 والعمل ضمن الجهاز السري للثورة وانتهاء إلى اغتيال كل منهما في مأمنه، وفى المكان الذى التصق به وتفوق فيه، فاغتيل النقراشى رجل الأمن في وزارة الداخلية معقل الأمن عام 1948، واغتيل أحمد ماهر أقدر رئيس برلمانى في دار البرلمان عام 1945.

كان النقراشى مدرسًا صارمًا وجادًا، وكان مفطورًا على النظام موهوبًا في التنظيم. وكان أحمد ماهر محاضرًا مرنًا، ينتقل بين العبوس والمرح وفقا لمقتضى الحال، ولم يكن أحد منهما موهوبًا في الخطابة كما كان مكرم عبيد.. ولكن الصديقين كانا موهوبين في التفكير المرتب، فوق اختيارهما على "ما تحت الأرض" من العمل السري مسرحا لنشاطهما.

وضع الزعيم سعد زغلول عينيه على الموهبتين منذ أن كان ناظرًا للمعارف العمومية في بدايات القرن العشرين، وأدرك مدى الحاجة إليهما وفي هذه السن على وجه التحديد، فجند الاثنين معًا ووزع الأدوار عليهما، فعهد إلى النقراشى بكل ما يتطلب الدقة والتنظيم والكتمان والإقدام، بينما تولى ماهر مهمة التخطيط.

وخلال سنوات الثورة تعددت جمعيات الاغتيال السرية، وتعددت أسماؤها أيضًا من "الانتقام" إلى "اليد السوداء" وغيرهما.

وخلال أحداث الثورة عهد الزعيم سعد زغلول إلى عبد الرحمن فهمي بك بقيادة التنظيم، واستطاعت سلطة الاحتلال أن توقع بهما، امتدت إليهما أصابع الاتهام في قضية "الاغتيالات الكبري" التي أعقبت عملية اغتيال "السير لي ستاك" عام 1925، ولكن أحدًا لم يستطع أن يقيم دليلًا على الاتهام، فاعتقل الاثنان أكثر من مرة.. وأخلى سبيلهما في كل مرة، ونسبوا إليهما جرائم لم يرتكباها، ولم تنسب إليهما الجرائم التى ارتكباها، وظل الصديقان يعملان في الخفاء، ونفوذهما في الوفد يزداد.

عند تشكيل سعد لوزارته الأولى في سنة ١٩٢٤، فوجئ الناس بسعد يعين النقراشى وكيلا للداخلية. جاء "الرجل الغامض" الذي يعمل مدرسًا ليسيطر على شبكة الجواسيس التى ظلت تطارده من بداية الثورة، أما أحمد ماهر فقد اختاره وزيرًا للمعارف في التعديل الثاني على حكومته.

النقراشي

الغضب

مع بداية شهر فبراير من عام 1945، لم تستطع برودة الشتاء أن تقلل من سخونة الغضب الذي ساد الشارع المصري، عقب إعلان حكومة الدكتور أحمد ماهر باشا عزمها إعلان الحرب ضد دول المحور.

كان هدف "ماهر" هو أن تتوافق مصر مع ما أقره رؤساء الدول الكبرى الثلاث - الولايات المتحدة وبريطانيا والاتحاد السوفيتى - في مؤتمر القرم الذى عقد بمدينة يالتا Yalta في الفترة من ٤ إلى ١١ فبراير ١٩٤٥ بعقد مؤتمر دولى في سان فرانسيسكو بالولايات المتحدة في ٢٥ أبريل ١٩٤٥ لإعداد ميثاق المنظمة الدولية المزمع تكوينها عقب الحرب لتحل محل عصبة الأمم التى فشلت في إقرار وحفظ السلام في العالم، وكان شرطهم الوحيد أن توجه الدعوة لحضور المؤتمر للدول التى أعلنت الحرب على المحور قبل أول مارس ١٩٤٥.

البنا مع شباب الإخوان في معسكر حلوان

وما أن انتشرت أنباء عزم وزارة أحمد ماهر إعلان الحرب على المحور حتي تزعم حزب الوفد موجة الرفض، مؤكدًا أنه لا معنى للربط بين إعلان مصر للحرب وبين تمثيلها في مؤتمر السلام على أساس أن النحاس وهو في الحكم قد حصل من الجانب البريطانى على تأكيدات بهذا التمثيل، وأصدر حزب الوفد بيانًا أكد فيه اعتراضه على هذا القرار، مؤكدًا أن هذه الخطوة ستؤدي إلى تضحيات كبيرة من جانب مصر في المال والرجال، ورأى أنها تتناقض مع سياسة تجنيب مصر ويلات الحرب التى اتبعتها كل الحكومات السابقة والتى حظيت بتأييد البرلمان والشعب (المقطم، عدد ١٧٣٩٣ - ٢٤ فبراير 1945).

ولعبت جماعة الإخوان دورًا كبيرًا في التحريض ضد شخص أحمد ماهر، فهو الرجل الذي يريد إعلان الحرب على دول المحور، وهي الحليف الرئيسي والداعم للجماعة على مدى سنوات الحرب، ولم يتوقف الأمر عند هذا الحد بل أرسل حسن البنا المرشد العام لجماعة الإخوان رسالة إلى أحمد ماهر أكد فيها موقف الجماعة المعارض لقرار إعلان الحرب ضد المحور.

كذلك لعبت القوى السياسية الأخرى دورًا إلى جانب الإخوان لإعلان الحرب والممثلة في الحزب الوطنى وحزب مصر الفتاة، وهما الحزبان اللذان أثارا الرأى العام ضد أحمد ماهر، خاصة أنه تلقى خطابات تهديد تحذره من قرار إعلان الحرب.

كانت بداية التحريض من الجامعة المصرية، فقد تلقى الملك فاروق العديد من البرقيات - من طلاب الجامعة – أدانوا فيها القرار ووصفوا أحمد ماهر بأنه "عدو الأمة"!

فى مساء السبت ٢٤ فبراير ١٩٤٥ وقف أحمد ماهر يلقى بيانًا مطولًا عن الأسباب التى دفعت مصر لاعلان الحرب ضد المحور، واختتم بيانه بقوله: "إننا لا نجنى شيئًا من بقائنا على انفراد وفى عزله عن سائر الدول بل الخير كل الخير في تعاوننا مع الدول واشتراكنا في المؤتمرات الدولية.. إنى واثق كل الثقة من قراركم في هذا الموضوع، وآمل أن يكون إجماعيًا أو شبه جماعي، ولا يمكن أن تقول مصر إنها تعرف حقوقها وواجباتها وتقدر مصالحها، ثم لا تتأثر إلا بمؤثرات ترجع في كثير من الأحيان إلى استخدام كل الظروف لتحقيق أدنى الشهوات وهى شهوة الوصول إلى الحكم".

وفور انتهاء أحمد ماهر من إلقاء بيانه، وخروجه من مجلس النواب متجهًا إلى مجلس الشيوخ، وأثناء مروره بالبهو الفرعونى أمطره الشاب محمود العيسوى الذي يعمل محاميًا بالرصاص وأرداه قتيلًا.

الخطير أن التحقيقات التي جرت مع القاتل، كشفت أنه كان عضوًا في مصر الفتاة ثم انضم للحزب الوطنى، ولكنه كان متأثرًا بأفكار جماعة الإخوان المسلمين ومرشدها العام حسن البنا، وهو ما ذكره الشيخ سيد سابق للكاتب خالد محمد خالد: "إن محمود العيسوى من صميم الإخوان المسلمين". كما جاء في مذكرات الشيخ الباقورى أن «"الجهاز السرى للإخوان قد رأى الانتقام من أحمد ماهر، لأنه أسقط الشيخ البنا في الانتخابات بالإسماعيلية، فوجه محمود العيسوى لاغتيال رئيس الوزراء".

اعتبارًا من شهر يوليو عام 1948 عادت الانفجارات من جديد لتهز شوارع وميادين القاهرة، والطائفة المستهدفة- بالطبع- كانت اليهود. فقد انفجرت شحنة من الديناميت في محل شيكوريل بوسط القاهرة، تبعها انفجاران في محلى بنزايون وجايتنو في الشهر التالى.

مذكرة الحل

أمام هذه الانفجارات التى أشارت أصابع الاتهام فيها إلى الإخوان، أعد عبدالرحمن عمار، وكيل وزارة الداخلية لشئون الأمن، مذكرة حول جماعة الإخوان المسلمين قال فيها «إن الجماعة ترمى إلى الوصول إلى الحكم بالقوة والإرهاب، وإنها اتخذت الإجرام وسيلة لتنفيذ أهدافها، فدربت شبابًا من أعضائها أطلقت عليهم اسم «الجوالة»، وأنشأت لهم مراكز رياضية تقوم بتدريبات عسكرية وأخذت تجمع الأسلحة والقنابل والمفرقعات وتخزنها وساعدها على ذلك ظروف حرب فلسطين.

المذكرة استعرضت الحوادث التى قامت بها الجماعة، بحيث أصبح وجودها يهدد الأمن العام والنظام تهديدًا بالغ الخطر، وأنه بات من الضرورى اتخاذ التدابير الحاسمة لوقف نشاط هذه الجماعة التى تروع أمن البلاد.

وأمام تصاعد حدة التوتر بين النقراشى وجماعة الإخوان أحس البنا أن النقراشى يتجه إلى إصدار قرار بحل الجماعة، فأجرى عدة اتصالات بقيادات أمنية في البوليس المصري لعل أبرزها مع أحمد مرتضى المراغي "بك" مدير الأمن العام، وهو ما أورده الأخير في مذكراته بقوله: "كنت معتادًا أن أتوجه كل يوم جمعة إلى حلوان؛ حيث منزل الأسرة لأقضي يوم العطلة وأنعم بدفء حلوان وشمسها في أيام الشتاء.

وفي يوم جمعة من شتاء عام 1947 وكنت مديرًا للأمن العام، تأهبت للخروج لأتمشي في الصحراء التي تفصل حلوان عن النيل، وعند الباب رأيت شخصًا واقفًا تقدم إلى يحييني فسألته من هو؟ فقال لإنه يحمل إليَّ رسالة من الشيخ حسن البنا، وسلمني إياها، فتحتها فوجدت أن الأستاذ قد حضر إلى حلوان ليلقي خطابًا في حفل تقيمه جماعة الإخوان، وأنه علم بوجودي في حلوان ويريد مقابلتي في وزارة الداخلية ليطلب مني أن أراجع قرار عقوبة وقعها على أخيه، رئيسه الذي كان يعمل برتبه كونستابل في البوليس، لمخالفة ارتكابها، ولما راجعت أسباب العقوبة، قلت له إن رئيسه محق في توقيع العقوبة، فقال أرجو أن تسامحه، وسأحاول أن أهديه لكي لا يعود إلى مثلها، وأذكر أني قلت له: إنك لا تهدى من أحببت ولكن الله يهدي من يشاء، فأطرق قائلًا: نعم نعم، قلت له: سأوقف تنفيذ العقوبة ولا أرفعها، فإذا مضي زمن وحسن سلوكه فإني سأرفعها، وشكرني وانصرف.

وفي الساعة الخامسة حضر الأستاذ البنا وكان ذا لحية لا هي طويلة ولا هي قصيرة خفيف الخطى سريع الحركة والكلام، وبعد شرب القهوة وتبادل التحية، قال: أعذرني إذا قطعت عليك عطلتك، ولكن وددت أن أختلي بك بعيدًا عن مكتبك، لأن عندي أشياء أود أن أقولها وأود منك الإصغاء إليها.

قلت: تفضل ومرحبا بك

قال: عندي رسالة شفوية أرجو أن توصلها إلى القصر لأني أعلم أنك الوحيد الذي ستنقلها بأمانة، لقد كنت صديقًا للمرحوم والدك (يقصد الشيخ مصطفى المراغي شيخ الأزهر) وقصدتك شخصيًا في موضوع، وأجبت رجائي فارتحت إليك، كما كنت أرتاح لوالدك

قلت: وما الرسالة؟

قال: إن رئيس الحكومة – يقصد النقراشى - يريد حل جماعة الإخوان المسلمين وهذا قرار بالغ الخطورة. وقد تكون له مغبة وعواقب وخيمة أخشي منها كثيرًا، إذ أنه لابد أن يقع بيننا وبين الحكومة صدام عنيف، ولا شك أنك تدرك ذلك بوصفك مديرًا للأمن العام، ونحن الإخوان نشعر بأن رئيس الحكومة ( النقراشي باشا) قد جر الملك فاروق إلى خصومتنا، بما أرسله إليه من تقارير وضعها له عبدالرحمن عمار وكيل الداخلية تتضمن أننا نريد قتل الملك وننبذ تصرفاته.

قلت: يا أستاذ حسن هل تأذن لي أن أدبر لك مقابلة مع النقراشي باشا لعلك تستطيع فيها بلباقتك وحكمتك أن تصفي الجو بينه وبينكم؟

قال الشيخ حسن وهو يرفع يديه: لا أمل في الوفاق معه، إني أعرف طباعه، إنه عنيد وركب رأسه، ثم إننا نستطيع أن نصبر على رئيس الحكومة؛ لأنه قد يترك منصبه في أي وقت، أما الملك فهو باقٍ، أرجوك أن تحمل إليه هذه الرسالة، إن الإخوان المسلمين لا يريدون به شرًا قل له إننا لا ننبذ تصرفاته، إنه يذهب إلى نادي السيارات للعب الورق، فليذهب، وإلى النوادي الليلية ليسهر، فليسهر فلسنا قوامين عليه.

وضحك قائلًا: وعلى كل حال نأمل أن يهديه الله.

سكت مليًا، ثم نظرت إلى الأستاذ فوجدته يحدق في بنظرة نفاذة ليعرف تأثير كلامه.

قلت: يا أستاذ حسن إن رسالتك خطيرة، وسأبلغها إلى الملك، وسأبلغ رأيك في حل الإخوان وخطورة عاقبته إلى النقراشي.

هز الأستاذ رأسه وقال: إني أعرف أنه عنيد، وسينفذ رأيه، ولكنى رجوتك أن تخبر الملك عله يقنعه بالعدول عن تلك الجريمة النكراء.

وقدحت عينه شررًا وقال: نعم إنها جريمة نكراء يريد النقراشي ارتكابها، هل يظن أننا لعبة في يده يستطيع تحطيمها بسهولة؟!

وانقلب الشيخ الوديع نمرًا هائجًا، ولكنه عاد إلى طبيعته الهادئة حينما رأني أنظر إليه.

وضحك قائلًا: لا تؤاخذني إذ نسيت نفسي!

قلت: يا أستاذ حسن إن الإخوان المسلمين أصبح عددهم كبيرًا، وأصبحوا قوة وخصومكم يقولون: إنكم انحرفتم عن أن تكونوا جماعة دينية، وأصبحتم حزبًا سياسًا، لأنكم تقولون إن الإسلام دين وسياسة، فلماذا لا تتقدمون للانتخاب ليكون لكم نواب يدافعون عن وجهة نظركم؟

قال الشيخ حسن: لقد قدمنا بعض المرشحين من أعضاء الجماعة إلى الانتخابات لا باعتبارهم إخوانًا مسلمين، لأننا نعلم أن الحكومة ستعمل على إسقاطهم، ولكن كمستقلين، ولكن الحكومة عملت جهدها على إسقاطهم، أتدري يا أستاذ مراغي متي نستطيع دخول الانتخابات بصفتنا إخوانًا مسلمين؟

قلت: متي ؟

قال: حيث يقبل الملك أن يكون لنا في الوزارة وزيران أو ثلاثة وزراء، عندئذ نعرف كيف نحظي بعدد من كراسي مجلس النواب.

قلت: هل يعني ذلك أنكم تقبلون دخول الوزراة إذا دعاكم الملك من دون شروط؟

قال: نعم من دون أية شروط؛ لأن وجودنا ضروري لخدمة البلد، إن برنامجنا الاجتماعي إصلاحي يقوم على أسس قوية.

قلت: يا أستاذ حسن وماذا يصنع وزراؤكم في رخص نوادي الميسر والملاهي والبارات والخمر؟

ضحك الأستاذ وقال: هذه قفشة لا بأس بها، ولكن تتعدل، وعسى أن يستطيع وزراؤنا إزالة ذلك المنكر.

قلت: لعل هذا من باب "والله لنخوضن إليكم الباطل حتى نصل إلى الحق"، أو من باب الضرورات تبيح المحظورات.

قال الأستاذ: نعم لك الحق لقد فهمتها جيدًا، وفسرتها يا أستاذ مرتضى.

وفي اليوم التالي – والحديث للمراغي في مذكراته - قابلت النقراشي باشا ورويت له الرواية.. فهز رأسه استخفافًا وقال: كان أحسن لو لم تقابله.

قلت له: بل كان واجبًا، ثم أخبرته بأني سأرسل تقريرًا إلى الملك عن مضمون رسالته له فصرخ قائلًا: إني آمرك ألا ترسل شيئًا إلى الملك.

قلت: لقد وعدته.

قال: كيف تعده من دون إذني؟

قلت: قد أكون أخطأت وأرجوك أن تبلغ الرسالة أنت إلى الملك.

وكنت بالفعل قد كتبت تقريرًا بموضوع المقابلة سلمت النقراشي نسخة منه فصاح قائلًا: هل تريد أن تفرض عليَّ رأيك؟

قلت أعلم أني موظف في وزارة الداخلية، وأنت الوزير، ولكني بصفتي مديرًا للأمن العام، أقول لك: إن العواقب خطيرة.

وفي هذه الأثناء دخل عبدالرحمن عمار وكيل الوزارة، وكان النقراشي هائجًا، فأشار إليه النقراشي بالجلوس، وقال: انظر ما فعله مدير الأمن وقص عليه الرواية.

وإذا بعبدالرحمن عمار يقول: على كل حال المسألة منتهية يا دولة الرئيس، فقد انتهيت من وضع قرار حل جماعة الإخوان المسلمين، وسأعرضه غدًا على دولتكم لتوقيعه.

هالني الأمر – والحديث لا زال للمراغى - فقلت: أرجو يا دولة الرئيس أن تقدر خطورة الأمر، وأن تتمهل في إصدار القرار، إن الإخوان المسلمون يشكلون منظمات وخلايا سرية لا علم لوزارة الداخلية حتى الآن بأسماء أعضائها، وقد يكون بعضهم داخل الوزارة ومن حراس الأمن.

قال النقراشي: هل تريد أن نرى الإرهاب، وتريد أن نعترف بشرعيتهم؛ لأنه حكم على بعضهم بالسجن؟ فهل تسمح لهذه الجماعة بأن تتمادى إلى حد قتل القضاة؟ لابد لي من حل هذه الجماعة.

ثم ضحك وقال: إني أعرف ديتها، إنها رصاصة أو رصاصتان في صدري.

وصدقت نبوءة النقراشي إذ حين توجه إلى وزارة الداخلية حوالي الساعة التاسعة صباحًا وهم بدخول المصعد، تقدم منه شاب يرتدي ملابس ضابط بوليس، وأطلق عليه رصاصة من الخلف أصابت القلب وتوفي على أثرها، وكانت الوزارة من الخارج والداخل محروسة بما لا يقل عن مائتي شرطي مسلحين جميعًا بالبنادق الأوتوماتيكية، والغريب أن أحدًا من الذين كانوا في بهو الوزارة وأمام المصعد لم يحاول أن يطلق على الجاني طلقة واحدة أو يحاول إمساكه، ولعل هول المفاجأة أذهلهم، وخرج الضابط المزيف إلى فناء الوزارة محاولا الهروب، ولكن قبض عليه وتبين أنه من جماعة الإخوان المسلمين.