كمال ممدوح حمدى.. يكتب تواتر الحركة.. في فضاء زمن ميت
منذ ما يقرب من ثلاثة قرون و نصف القرن, كانت
هذه الفتاة قد شرعت تسكب اللبن من إناء إلى إناء, لا الإناء الأول فرغ, ولا الإناء
الثاني امتلأ, كان ثمة زمنا سرمديا لا تبلى فيه الأشياء او تتلاشى, و لا تكتمل
فيداهما بعد ذلك النقصان, أو تنقص فيعاقرها بعد ذلك خذلان الفناء.. هي هي باقية,
أو كان زمنا قد توقف عند اللحظة التي جرجرت من شعرها البنت, مسحوبة من الحياة
لتبقى مسجونة على سطح اللوحة.. غدا, و بعد عام أو عشرة, إن عاودت النظر إلى
اللوحة, وجدت اللبن ما زال في "حركته" في الانتقال من إناء إلى إناء..
هنا زمن مسلوب من فعله في الحركة والتواتر,
قد توقف ليعطي سانحة للبنت " تسرح" ما طاب لها الشرود, دون أن
"يندلق" اللبن خارج الإناء, ولنا كي نعيد التأمل فيها, ما طاب لنا
التلصص و الفضول على أسرار داخلية للبنت.. أقول هنا زمن توقف, يجاوره النقيض
الكامل في وجود الحركة تتخلق عن هذا الثبات!, و للنقيضين سنرى أشكالا متعددة من
التكريس, بعضها يمسك بتلابيب الزمن و يجثم فوق سكونه, و بعضها يدفع بالأشياء – على
رغم ذلك – إلى استمرار الحركة, كهذا اللبن المستمر في التدفق, إلى أبد لا يحين..
هنا أيضا تستحم الأشياء في النور, ليس أمامنا
في اللوحة نافذة أو باب, و المصباح نائم في سلام الانطفاء.. نور غامر دون مصدر
خارجي للنور..! تلك الأشياء, و الوجوه بلا شك تشع بنور داخلي يغمر المكان خارجها..
مر حوالي ثلاثمائة و خمسين عاما و لم يهن الضوء, غدا تراه مثلما تراه الآن, لا
يخبو ولا يستسلم كذؤابة المصباح التي تنام مع النهار, و تشتعل باليقظة مع كل
مساء.. هذا الضوء بدوره اشارة كوضح النهار إلى تجميد الزمن من ناحية بالثبات على
لحظة إشراق, و إلى استمرار حركة تدفقه من الداخل دون أن ينضب, مثلما لا ينضب
اللبن..
الزمن, و الحركة, و الضوء عناصر أساسية في
اللوحة. و هناك في اللوحة الأصلية, أو في صورها الراقية عنصر رابع هو اللون, و هنا
في صورتها عنصر رابع هو غيظي و غيظكم, و لنتجاهله اجتنابا للكلمة, وكفانا من العمل
أن نحظى منه بقليل يزيحنا عن مواقع الصفر خطوة.
نتحدث عن الزمن في اللوحة, الإمساك به عند
تلك اللحظة المشرقة فلا يتجاوزها أبدا, فأي زمن؟ لو اننا توقفنا أمام اللوحة ساعة
لساطنا الجوع منبها إلى ان الزمن هو زماننا المعاش الذي لا يبالي باهتماماتنا
الصغيرة فيمضي دون ان يكرث إن توقفنا أو أسرعنا معه, و إن طال بعد وقوفنا أظلمت
الدنيا, واختبأت اللوحة بألوانها و حركتها ووهم زمنها العفي أبدا, و نتحدث عن
الحركة, ولو مددنا يدنا إلى سطح اللوحة لما تحرك تحتها شيء فأي حركة و اليدان
اللتان ترفعان الإناء المملوء واحتملت ثقله ثلاثة قرون و نصف القرن, لم تغيرا
موضعهما قيد شعرة..!
هذه مغالطة ينبغي ان نحذرها, فالصورة
المطبوعة مع هذا الكلام, أمامك, ليست هي الصورة التي تراها حقيقة, الآن.. ما أمامك
بقع من الأحبار وورق الصحف الخشن, أما البنت و الإناء و المنضدة و المصباح و
الأدوات, فأشكال موجودة بالفعل داخل الدماغ, حرك رأسك قليلا, وابعد ناظرك عن
الصحيفة و سترى أن صورة البنت ما تزال موجودة, بوسعك أن تراها بوضوح تجول في
الرأس, و أنت مغمض العينين, أو فاتحهما عن آخرهما.. ليست هذه هي الذاكرة الآنية,
أو الذاكرة البصرية, و لكنها العناصر التي تتنقل لا تزال ما بين سطح الورق و جوف
الرأس عبر العينين.. و إذا كنت بوسعك أن ترى الصورة رغم اختفاء مثيرها من أمام
العين, فما يمنعك أن ترى الحركة رغم ثبات سطوحها تحت إصبع الملامسة؟, و مع ذلك
فلنجرب:
جرب أن تنظر إلى المرفق الأيسر للفتاه و بعده
بشكل غاية في السرعة قدر ما تستطيع إلى فوهه الإناء الذي يصب منه اللبن, و نقل
النظر بسرعة متلاحقة عدة مرات إلى هاتين النقطتين دون أن تحاول أن ترى شيئا آخر مع
إحداهما, فقط المرفق و الفوهة, ستجد أن الإناء يهتز في يدي الفتاة, و يتحرك قليلا
إلى اليمين و اليسار.. و طبيعي أن الإناء لم يتحرك فوق سطح الصحيفة و لكنه تحرك في
رأسك عن موضعه..
بشكل عام, الخطوط المتماوجة و المنحنية, و
المائلة, و الأشكال الدائرية و الكروية, هي التي تملك هذه القدرة على إشاعة الحركة
في اللوحات, و لهذا السبب جمع الفنان كل هذه الأشياء فوق المنضدة و بهذه الوفرة
رغم أن لا حاجة إليها لصب اللبن, و تأمل كل الأشياء.. كلها بلا استثناء أشكال
دائرية أو كروية, حتى السلة المربعة المعلقة على الجدار – و إن كانت بعيدة عن مركز
الحركة فوق المائدة – فإن الفنان قد أذاب زواياها في الظلمة, و أبرز إلى جوارها
المصباح باستداراته, و تأمل أيضا شكل الجسد المصاغ بكامله من خطوط دائرية أو
منحنية, فشمر للبنت أكمامها, ولم ثوبها بخطوط منحنية, و لف الجسد و الذراعين
بأشكال اسطوانية تجعله يتململ في وقفته..
الخطوط المستقيمة فقط في المنضدة و الصندوق
الصغير, و هذان قد أبرزت فيهما الخطوط المائلة..
هناك حركة, و لكنها حركة ثابته لا تتغير, و
بدلا من أن تكون الحركة بتغيرها راصدة لحركة الزمن, هي بثباتها تكريس لتوقف الزمن,
و كمثال لو افترضنا أن الفنان لم يرسم خيط اللبن المسكوب, تخيل ذلك, لكان توقعنا
بالنسبة للإناء الذي ترفعه الفتاة متغيرا, فإما أن ترفعه قليلا ليبدأ في الظهور
تصبه, وإما أنها قد فرغت و عما قليل ستعيده إلى مكانه.. حينئذ سيتحرر تفكيرنا الذي
يتجاوز وضع الإناء إلى أكثر من توقع و شيك, أما و نحن نرى اللبن يواصل الانسكاب,
فإننا معلقون به, متوقفون معه حتى ينتهي, نرقب – في ثبات لا يتجاوز الحركة البسيطة
– كيف ينسكب, و يواصل الانسكاب عند لحظة ثابتة و نواصل الثبات على ثباته..
الضوء, الذي يذكرنا بأساتذة كبار على مر عصور
مختلفة, مثل رامبرانت, وفيلاسكيز وكارافاجيو وغيرهم, لأنه بهذا السطوع و النصاعة,
فنحن لا ننكر في ظلمة وشيكة – لو لم يكن – أو في اشتعال يتأهب لانفجار النور, إنه
موجود دون صلة بالما قبل أو بعد الما بعد, ثابت و نحن ثابتون معه..
العناصر الثلاثة جميعا تتضافر معا في تبادلات
عبقرية: الزمن الثابت يخدم ثبات الحركة على عدم التغير, و الحركة التي لا تتغير,
يخدم تواترها الرتيب جمود الزمن, و الضوء يستفيد من الاثنين, و يمنحهما فصاحة
التعبير عن الوجود.. كلها تتضافر لتجعل من عمل عادي, لفتاة عادية خالية من الجمال,
في منزل عادي, تمارس عملا عاديا لا يهتم به عابر, لتجعل من هذا كله في النهاية درة
فذة من روائع الفن, حتى و إن كانت في نظر النقاد ليست من الأعمال المتميزة للفنان,
و إذا شئت أن ترى طرفا من استحالة هذا العمل, فانظر من مسافة بعيدة نسبيا إلى
الإناء الأسفل, إنك ترى حوافه العليا فحسب, فإذا أردت أن تقترب لترى إن كان اللبن
يظهر في قاعه, هالك أن ترى عمق الإناء, كما لو كان إناء حقيقيا و ليس صورة, قيما
يعرفه المصورون الفوتغرافيون "بدوائر الارتباك".
اللوحة للفنان الذي توقف عنه زمانه, فكاد
ينسى حتى تم اكتشافه بعد قرن من وفاته جان فيرميير (1632م – 1675م) الذي تخصص في
مجال غريب, ترك معه مشاهد الطبيعة و مظاهر الحياة الضاجة بالحركة, ووجوه البارزين,
واتجه إلى تصوير الحياة البسيطة داخل البيوت و في الغرف الصغيرة, مكتفيا في كل
لوحة في الغالب بشخصية واحدة, يعطيها بطولة مطلقة.. و لكن لهذا حديث آخر..