الثلاثاء 19 مارس 2024 09:53 صـ 9 رمضان 1445 هـ
رئيس مجلس الإدارة ورئيس التحريرصالح شلبي
مستشار التحريرمحمود نفادي
بوابة الدولة الاخبارية
اليوم أولى جلسات محاكمة عدلي القيعي في سب وقذف رئيس بيراميدز دكتور محمد صالح : تطوير حلول مبتكرة واستراتيجيات فعالة للحد من حوادث الغرق في أفريقيا لجنة الاعلام والثقافة والآثار بالنواب تناقش الاخطار التى تهدد الجمعية الجغرافية المصرية بحضور قيادات وزارة التضامن قوى عاملة النواب : تناقش اليوم رد وزارة قطاع الاعمال العام حول قطاع الغزل والنسيج وضمان الحصول على خدمة... فتح عينيه| أحمد رفعت بره الغيبوبة.. وهذه تفاصيل حالته الصحية مسلسل حق عرب الحلقة 8.. تهديد جديد يطارد وفاء عامر بفضح أمرها ستاندرد آند بورز ترفع توقعاتها الاقتصادية لـ مصر إلى إيجابية المخرج بيتر ميمى يحيى فريق عمل مسلسل الحشاشين بنشر صور بديعة من العمل فوزا طلبة مدرسة المراكبية للتعليم الأساسي بالمركز الأول لمسابقة أوائل الطلبة علي مستوي البحيرة محمد شاهين.. خفة ظل تختبئ داخل شخصية جادة بمسلسل «لحظة غضب» ثقافة الأقصر تناقش دور الأم في التغذية السليمة للطفل بمحاضرات متنوعة ضبط 13 ألف علبة سجائر مهربة في كمين بنطاق مركز مطوبس بكفر الشيخ

كمال ممدوح حمدي يكتب المتعة .. فوق أوجاع الصغار!


يؤلمني كثيراً
مجرد أن أتصور طفل السادسة, في نومه الملائكي, وهو يفزع في الصباح الباكر كل يوم
ليذهب إلى مدرسته .. فحتى لو كانت الأم هى التي توقظه, بانهمار تقبيل أودعته كل
حنانها, لو كان لنا بعدُ ذاكرة الطفولة, لروينا عن لدغات النحل التي توخز جلداً
غضاً كان لنا في ذلك الفجر مع كل قبلة مشبوبة من الأم, تبدي الحنان والتدليل,
وتخفي وراءها رغبة في قض مضاجعنا من عز النوم, للزج بنا داخل اسوار المدرسة يوماً
كاملاً, كأكبر الموظفين, من التعب .. ويؤسيني في الشارع, مشهد الصغار يفركون العيون
بظهر اليد, مطاردين النوم, وهم يسيرون خطوتين للأمام وواحدة إلى الجانب الأيسر أو
الأيمن .. مازالوا نصف نائمين, ومنظر أرنبة أنف الطفل واطراف الاذنين حمراء بلون
الدم من صقيع الشتاء في ساعات النهار الباكر, واصطكاك الاسنان الصغيرة الصغيرة بلا
صوت, كاسنان فأر, وحقيبة كتب على الظهر بوزن الجسد الصغير, مبللة بعرق ظهيرة صيف.

تبدو المسألة
لا انسانية, حتى وإن كان وراءها دافع عظيم في تعويد الطفل على أن يكون رجلاً
ومسؤولاً منذ نعومة الاظافر, مع ذلك فهذا التعب يسعدنا.

هذه الصغيرة
الجميلة, والبريئة, في الصورة بكت سبعين مرة على مدى سبعين يوماً متتالية, من
التعب, واخفت دموعها في تعب نفسي اشد, تحمل كل جسدها فوق رجل واحدة, وتسند توازنه
بالاخرى, ليس مسموحاً لها ان تحرك كل جسدها فوق رجل واحدة, وتسند توازنه بالاخرى,
ليس مسموحاً لها ان تحرك الجفن في طرفة عين, او تهش ذبابة ضالة, كالكلب, تعاندها,
او ان تلفت إلى صوت خلفها, او ان تريح صدرها المشدود للاعلى لحظة فوق استرخاء
الجسد, او ان تبدل قدماً بقدم كي تريحها من عبء الجسد ساعات طويلة, وليس مسموحاً
لها ان تبدل ثوباً آخر بهذا الثوب سبعين يوماً متتالية, او تمشط شعرها على غير ما
كان عليه في يوم سابق, أو ان ترخي ذراعها اليسرى, او تبسط يدها وقد تعبت اصابعها
من القبض على قبة تزداد ثقلاً يوماً بعد يوم, محظور عليها الكلام, والشرود تذكراً
للعب, ومحظور عليها الاحساس بالجوع او بالعطش, كل ذلك من أجل ان تكتمل لها صورة
كهذه الصورة.

 لقد اختار لها الفنان وضعاً للتصوير قاسياً –
وكان بوسعه ان يصورها جالسة أو نائمة – واختار لها حظها أن يكون المصور هو ويسلر
(جيمس ماكنيل ويسلر 11 يوليو 1834م – 17 يوليو 1903م ) بكل ما نعرفه عن عاداته
وطريقته في ممارسة الرسم.

ويسلر : انسجام
الرمادي والأخضر

سيسلي الكسندر (
1872 – 1873م ) تيت جاليري, لندن.

كان ويسلر لا
يستخدم "الباليتا" التي يمزج فوقها المصورون ألوانهم, وانما يستخدم
بدلاً منها منضدة طولها متر, يمزج على سطحها الألوان, وسبب ذلك انه كان يحرص على
تجهيز كل الألوان بكل الدرجات التي يتصور انه سيحتاجها قبل الشروع في التصوير. هذا
معناه ان اللوحة تكون كاملة بكل ألوانها ودرجاتها في رأسه قبل ان يبدأ .. ولهذا
السبب فان خطأ بسيطاً يقع اثناء التصوير, لا يكون ثمة من سبيل إلى اصلاحه, تماما
كالنحت, لان ازالة اللون الطري واضافة اللون المطلوب مكانه, لابد ان يغير درجته قليلا
ولو بنسبة لا تلحظها العين, وانما يراها الفنان جموحاً في المخالفة لأنها ليست هى
الدرجة التي في رأسه, كثيراً ما اوشكت لوحة على انتهائها بين يدي ويسلر, ثم فجأة –
لسبب بسيط – يغمرها في مواد كحولية ويخرجها بيضاء كيوم ولدت, ليبدأ من جديد ..
ودائماً في نهاية ساعات كل جلسة يومية ما يتأمل ما وصلت إليه اللوحة, ان رضى به
ابقاه ليواصل في في اليوم التالي, وان لم يعجبه توج جهد اليوم بتنظيف سطح اللوحة,
ليعاود من البداية في يوم آخر, مع كل ذلك, فقد كان حريصاً في الجلسة الاولى ان
يكمل تخطيطاً شاملاً تاماً للوحة يوجه فيه من الاهتمام "للخلفية" ما
يوجهه للموضوع او الوجه الذي يرسمه, وبين لحظة واخرى, يبتعد مسافة عن اللوحة,
وينظر إليها –كمتفرج – ثم يقترب منها ويضع نقطة صغيرة ويعاود الابتعاد والاقتراب
هو وحده المحرر, يتحرك ما شاء على هواه, وضيفه الجالس او الواقف امامه للرسم, مقيد
داخل جلده الميت, لا يسمح له بابسط حركة, حتى وان كان ببراءة تلك الصغيرة, الواقفة
امامه منذ عام 1872 – 1873م ! وقد رحل الفنان في عام 1903م, ولا تزال البنت واقفة,
امامه تلك التي لابد قد رحلت الآن بدورها, تاركة علامة من زمن الطفولة ..

البنت هى
الآنسة الصغيرة سيسلي الكسندر, بعد ان كان قد مر على عذابها ربع قرن, كبرت فيه
ونضجت, لم تكن بعد قد طهرت روحها من ذكرى الطفولة المؤلمة, فراحت ترويها لاثنين
كانا يضعان كتابا عن حياة ويسلر, هما جوزيف, واليزابيث بينيل The Life of james Mcneill Whistler 1908قالت:

"أخشى أن
أكون قد اعتبرت نفسي ضحية طوال كل الجلسات, أو الأصح: كل الوقفات, لأنه لم يسمح لي
قط بتغيير وضعي قليلاً, وقد كنت اشعر بالتعب, وبإعياء شديد وغالباً ما انهى اليوم
بدموعي .. لم يلحظ قط دموعي, فقد اعتاد ان يقف بعيداً عن اللوحة قليلاً, ثم ينطلق
إليها, ثم يندفع للوراء, وغالباً ما يدور حول اللوحة, ويحدق فيها بنظارة معلقة
خلفه .. واظن انني كنت ارى ما تم في اللوحة من خلال انعكاساته واثاره عليه هو
.."

كان الكتاب يعد
للصدور بعد وفاة الفنان بخمس سنوات, ولابد ان "المرأة "كانت تضع في
اعتبارها تكريم الفنان, فأخفت الكثير من أوجاعها – طفلة – امامه, وان كان ما ذكرته
وحده يكفي.

عندما كان
ويسلر يرسم هذه اللوحة – في نفس الوقت – كان يرسم لوحة ( بورتريه ) لتوماس
كارلايل, وفي كل يوم يلتقي كارلايل - داخلاً إلى ويسلر - بالفتاة خارجة, او العكس,
ولفت ذلك انتباهه فسأل من تكون الفتاة, فقيل له انها سيسلي الكسندر, يرسم لها
ويسلر صورة .. فتنهد كارلايل قائلاً: "مسكينة .. مسكينة" هذا على الرغم
من ان كارلايل كان يجلس امام الفنان لانه يصوره جالساً.

لدينا الكثير
عن لوحات ويسلر مما كتب عن طريقته المعذبة في الرسم, ليس لأنه يبني اللوحة كلها
نقطة نقطة, وانما لأنه ايضاً كان يصر على أن يجلس امامه من يصوره, في وضعه المحدد,
بينما ينصرف هو إلى اعداد اللون, الذي يستغرق ساعات اكثر طولاً من وقت الجلسة
للرسم نفسها.

لماذا كل هذا
الكلام ؟

عندما نرى تلك الصغيرة الجميلة, قد تبهرنا براءتها فتمتعنا اللوحة, ولكننا حين نكشف الوجع الساكن في عظامها, تحت هذا الجمال, فقد تمتعنا اكثر, وعندما تمس اوجاعها فينا ما نشعر به ازاء الطفل عامة, ونحن نرثي لآلامه الصغيرة, فقد تصل إلى عمق اشد من ارواحنا, وعندما ندرك على خلفية من ذلك كله – اننا نستمتع باللوحة دون عناء, وان الصغيرة وحدها هى التي دفعت عنا الثمن, فقد نحملها من وسط اللوحة, وندخلها إلى القلب, او نضعها تحت الجفن, ونغمض عليها العين, حتى لا تغيب.

إعلامي ومفكر موسوعي